&زياد الدريس&&

فُجع الوسط الثقافي والإعلامي أمس (الأحد)، بخبر سقوط الدكتور عبدالرحمن الشبيلي من شرفة منزله بباريس، ونُقل إلى المستشفى في حالة حرجة حتى كتابة هذه السطور، شفاه الله وعافاه من كل بأس.


ظل عبدالرحمن الشبيلي في أعين الناس الأقرب إلى أسطورة الإنسان المثالي، فهو الناجح في تعليمه العام والعالي، الناجح في وظيفته الحكومية والأكاديمية، الناجح في مهنته الإعلامية والكتابيّة، الناجح في علاقاته الاجتماعية النخبوية والاعتيادية، المتوازن في ثنائية الدين والدنيا من دون تمظهر، الصادق في وطنيته من دون ابتذال، الجادّ في مقالاته وبحوثه من دون تجهّم.

كان يمشي في خطواته بمنتهى التوازن كما يمشي النبلاء، ويقول كلماته في المجالس بمنتهى الاتزان كما يتحدث الحكماء، ولذا كان سقوطه من شرفة منزله هو أول (سقوط) يسمعه الناس عنه!

عرفت أستاذنا الشبيلي في التلفزيون السعودي مذيعاً رصيناً ثم محاوراً هادئاً وبارعاً في ذات الوقت، كان ذلك قبل أن يتحول التلفاز من الأبيض والأسود إلى الألوان وتتحول الدنيا من الألوان إلى الأبيض والأسود!

توطدت العلاقة بيننا حين تعينت في منظمة اليونسكو بباريس، فاتصل بي يقول: أهلاً بك في النادي ... الباريسي، الذي يضم مجموعة من الفرنكفونيين السعوديين كثيري الترداد على باريس، وكثيري المساس بخصائصها. كان أبو طلال باريسياً حتى قبل أن يتعرف على باريس، أو تتعرف هي عليه. فالأناقة والشياكة واللغة الجميلة وإتيكيت المجالس والموائد كلها أبجديات يعرفها الناس عن أبي طلال حتى قبل أن يقع في غرام باريس، إذ إنك لتظن أنهما في غرامٍ متبادل، وليس من طرف واحد!

أصبحت، في خلال عشر سنوات مضت، ألتقيه في باريس أكثر من لقائي به في الرياض. فقد أصبح عضواً صيفياً شبه دائم في الصالون الثقافي الذي كنت أقيمه في منزلي بباريس، وكان أعضاء الصالون الدائمين من مثقفي باريس العرب يأنسون لمجيئه لأنه يضيف للحوارات جانباً توثيقياً من ذاكرته الواسعة الشاهدة.

في يوم سَفرته هذه إلى باريس تواصلت معه صباحاً، وكان يوم جمعة، وأخبرته أن عدداً من الأصدقاء المشتركين بيننا سيزورون والدي بعد صلاة الجمعة، كما يفعلون بين حين وآخر. كعادته لم يتردد في الاستجابة، ولما دخل بيتنا همس إليّ بأنه سيضطر لمغادرة المجلس مبكراً لأن رحلته السنوية إلى باريس الليلة ولا بد من إنجاز بعض الأعمال والزيارات قبل السفر. كان من النبل والوفاء بأن لا يتأخر عن إجابة الدعوة والتواصل مع أصدقائه حتى في أحرج الأوقات.

حين أصدر الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، مطلع هذا العام الهجري، سيرته الذاتية "مشيناها" لم أشعر بحاجة ماسة لقراءتها لسببين: أن الرجل صادق وشفاف بما كان يفعله في مسيرته الحياتية التي عرفناها مشاهدة وقراءة، وأنه لن يتجمّل بـ"بطولات" السير الذاتية. والسبب الثاني أنه أمين ورقيق بحيث لن يهتك ويكشف أسراراً لن يرضى بكشفها آخرون.

لكن المفارقة القَدَريّة أنه قد صدّر سيرته تلك ببيتي الشعر الذائعين:

مشيناها خطىً كُتبت علينا ** ومن كُتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيّته بأرضٍ ** فليس يموت في أرضٍ سواها!

عجباً لأبي طلال، الذي مشى خطوات عديدة بين عنيزة والرياض وأوهايو ومدن العالم، لكنه تعثّر في باريس، أقال الله عثرته.