& علي العميم

&الملحوظات النقدية التي فات على الأخ العزيز سليمان الخراشي أن يوجهها إلى نصيحة سيد قطب إلى «المتزمتين» بألا يردوا على كتاب عبد الله القصيمي «هذه هي الأغلال» هي:
هو نصحهم بهذه النصيحة، لأنهم - كما قال - شغلوا أنفسهم بالاحتجاج عليه، ولأنهم يشاركون - من غير قصد - في الضجة المفتعلة التي يثيرها الرجل حول كتابه وحول نفسه، مع أنه هو - أيضاً - شغل نفسه في أكثر من مقال بالاحتجاج على هذا الكتاب، وشارك فيما سماه الضجة المفتعلة حول الكتاب وحول صاحبه.

أكد في مقاله الأول والأخير عن القصيمي وكتابه، إيمانه بحرية الفكر، لكنه في الوقت عينه يريد أن يحجر على الذين سماهم بالمتزمتين حقهم في الرد تحت دعوى هو لم يعمل بها.
لا نرى في مؤلفاته الإسلامية عندما تكاملت عنده الأطروحة الإسلامية الأصولية التأكيد على حرية الفكر. وهذا أمر مفهوم لأن الإيمان بحرية الفكر يتناقض مع دعواه الإسلامية الأصولية. ولا نرى فيها وصفاً لصنف من الدينيين والمتدينين بالمتزمتين، لأنه كان يدرك أنه يقدم تنظيراً للإسلام زمّيتاً ومتزمتاً. هذه وتلك تضعفان من ردوده على القصيمي.
إنه حينما وصف في رد له على كتاب القصيمي، الذين أخذوا يؤلفون كتباً في الرد على كتاب القصيمي، بالمتزمتين، أراد بهذا الوصف أن يمايز بينه وبينهم، وبين ردوده وردودهم، والإشارة إلى أنه ليس متزمتاً مثلهم، وحين أكد في ردين على القصيمي على إيمانه بحرية الفكر كان يتظاهر بالليبرالية وينافق أصحابها.
كان أمراً منطقياً ومفهوماً أن يسارع السلفيون ويتحمسون في تأليف كتب في الرد على كتاب القصيمي لأنه منهم، بل كان عالماً وكاتباً ومساجلاً فذاً فيهم، وقد فاجأهم بذلك التحول الديني التحرري في ذلك الكتاب. ولو أن غيره من المنتمين إلى غير تيارهم الديني ألّفه، لما اهتموا بالكتاب ولا بصاحبه، ولما عنوا بالرد على الكتاب. هذه القضية على بساطتها لم يدركها سيد قطب لأنه كان ذا تفكير منفعل وانفعالي.
صاحب النصيحة سيد قطب اتبع مع إسماعيل مظهر أسلوباً متذاكياً لصرفه عن الإعجاب بكتاب «هذه هي الأغلال»، وبصاحبه، لكن هذا الأسلوب المتذاكي عاد عليه بالخذلان والخسران.
في أول رد له على القصيمي، قال: «وعلمت أن الأسطوانة التي أديرت على أذني أديرت على آذان الكثيرين، واستنهضت بها أريحية الكثيرين، وقد تحمس الأستاذ إسماعيل مظهر فكتب كلمة قوية في (الكتلة) عن الكتاب، وأنا واثق أنه لم يقرأه إلى نهايته، وإلا فلن تفوت فطنة الأستاذ إسماعيل أن تتبين في ثنايا الكتاب شيئاً غير نظيف». هكذا اعتذر له عن إعجابه بالكتاب في هذا المقال.

وفي رده الثاني على القصيمي، الذي خصصه لمناقشة إسماعيل مظهر في إعجابه بكتاب القصيمي، قال: «فمما لا شك فيه عندي أن الرجل مثقف مطلع، ذو مشاركة طيبة في الحركة الفكرية المعاصرة... ولكنني رأيته يكتب في جريدة (الكتلة) مرة ومرة عن كتاب (هذه هي الأغلال) بطريقة عجيبة».
وقال: «عجبت من أن يكتب رجل كالأستاذ إسماعيل بمثل هذا الأسلوب، وأن يعتقد في مثل هذا الكتاب وصاحبه ذلك الاعتقاد».
وقال: «الكتاب المريب في هذا الأوان إلى درجة أن يستخفه الإعجاب، فيفارقه ما عرف به من النفاذ والتؤدة والاتزان».
وبعد هذا المدح لإسماعيل مظهر، الممزوج بالعتاب، راح يعتذر له مرة عن إعجابه بكتاب القصيمي، فقال: «إن الأستاذ إسماعيل مظهر فيما يظهر قد استغرقته الدراسات الفلسفية والدراسات العلمية - وفي أوروبا خاصة - فلم يجد وقتاً يتتبع فيه الحركة الفكرية في الشرق العربي، وفي مصر خاصة».
وقال: «فالأستاذ إسماعيل مظهر بقدر ما هو عالم ومطلع في الفلسفة الحديثة والعلم الحديث، بعيد كل البعد عن حركة الفكر الإسلامي في القديم أو في الحديث، فكل حديث عنها في نظره إعجاز وإبداع!!».
هذا الأسلوب المتذاكي لم يثن إسماعيل مظهر عن الاستمرار في إبداء الإعجاب بالكتاب بصاحبه، وفي عدد من أعداد مجلة «المقتطف» التي يرأس إسماعيل مظهر تحريرها، قالت: «وإن (المقتطف) لعلى استعداد، اتباعاً لما توحي به حرية الرأي، أن ينشر كل ما يصله من بحوث الأدباء والفقهاء في هذا الكتاب على شرط واحد هو: أن يدور البحث من حول مسائل محددة المبادئ ونظريات علمية أو فقهية توجه المناقشة توجيها سديداً ابتغاء الوصول إلى الحق. أما الأقوال المائعة والعبارات التي تتناول وجهات غير محددة من البحث كالقول بأن الكتاب مزيف، أو أنه صنيعة للمبشرين، أو أنه دخيلة من دخائل المستعمرين بلا أي بيّنة من واقع أو منطق، فهذا ولا شك سلاح واهن يزيد الضعفاء ضعفاً، وينم عن سخيمة يكرهها العلم وينبذها الدين وتأباها الحرية يمقتها الخلق السوي الذي هو من خلائق الرجال».
هذه الرد كان موجهاً إلى سيد قطب وإلى بعض ما قاله في ردوده على القصيمي وكتابه.
ونشرت «المقتطف» مقالاً كتبه صاحب لقب مستعار هو «مسلم حر» يدافع عن كتاب القصيمي ويهاجم خصوم الكتاب، وقد قال صاحب هذا اللقب المستعار عن سيد قطب: «وثمة خصم ثالث لهذا الكتاب، وهو رجل يتعاطى صناعة الأدب الصناعي، ولكن مقاومته لهذا الكتاب، والأسلوب الذي اختاره للمقاومة، كانا برهانين على براءته من كل صلة بالأدب بكل معانيه ومبانيه».
غضب سيد قطب فكتب مقالاً عنونه بـ«الكتاب المريب»، وهي التهمة التي كررها في أكثر من مرة في ردوده على القصيمي وكتابه. واعتبر الكلام الذي وجه إليه، وكلاماً آخر وجه إلى غيره، «شتيمة واطية». وقال: «سواء كان الذي نشر من قلمه، وقد خزي أن يوقعه، فرمز إلى نفسه بتوقيع (مسلم حر)، أو كان بقلم ذلك الرجل المريب صاحب الكتاب - كما يبدو - فإن الأستاذ مظهر هو المسؤول عن تمريغ (المقتطف) في الوحل». وقد عدّ هذه المجلة في ثلاث فقرات من مقاله مجلة محتضرة بسبب رئيس تحريرها إسماعيل مظهر!

ثم أتى على اعتذاراته السالفة لإسماعيل مظهر، فمسحها - كما يقول المصريون - بأستيكه! إذ خاطبه قائلاً: «إني أعلم تلك العقدة النفسية التي تواجهك، إنها عقدة الفشل، الفشل في كل مشروع هممت به، وأنت تعزو إلى رجال الدين تبعة هذا الفشل في حياتك. فكل شتم للدين ورجاله يغذي هذه العقيدة فيك، فلا تسأل بعدها إن كان نظيفاً أو غير نظيف، محقاً أو غير محق، ومن هنا تعصبك لكتاب مريب، وكتاب غير نظيف، وأنت في هذا تستحق المرثية، فالكتاب لا يحارب الدين وحده، ولكنه ينعي على كل خلق نظيف، ويسمى الضمير والخلق والمروءة وما إليها (أغلالاً) ثم يهدف إلى إخضاعنا الدائم للمستعمرين». ويختتم كلامه السالف، باتهام هو - بالفعل - اتهام «واطي» للقصيمي، إذ قال: «والناس يعرفون من ماضي الرجل وتاريخه ما يخزي، ويعرفون ما لا أستطيع نشره، لأنه يقع تحت طائلة القانون، وأنت مندفع مع عقدتك النفسية، فالله يرحمك، ويرحم (المقتطف) والسلام».
وكان قد قال في فقرة سابقة: «فالموت الأدبي الذي لقيه الكتاب وصاحبه يكفي، ما لم تثبت على الرجل جريمة أخرى غير نظيفة يتناولها القانون العادي، ولأني لا أحسبه أحرص من أن يترك أدلة مادية!».

إماتة الكتاب وإماتة صاحبه المزعومتان كان نسب سببها بنرجسية إلى قلمه: «أما بعد، فذلك الكتاب المريب قد انتهى، واسأل يا مولانا من شئت من الناس، فستعلم صدق هذا الذي أقول، انتهى، لا لأنني كتبت عنه كلمة أو أكثر، ولكن لأنني كشفت فقط عن مدى نظافته وعن جراثيم الفناء فيه».
ادعى سيد قطب في هذا المقال أنه ضد الشتم والمهاترة، مع أنه كان فيه شتاّماً ومهاتراً واستعدائياً، وكان شتاماً ومهاتراً في كل ردوده على القصيمي وكتابه، بل إن شتيمته ومهاترته تعدت القصيمي وكتابه إلى الأدباء المصريين الذين لم يحتفوا أبداً بالقصيمي وبكتابه، كما في مقاله «غفلة النقد في مصر».
لقد أخطأ سيد قطب في التكتيك الذي اتبعه مع إسماعيل مظهر، رغم أنه يعرف شخصيته وتاريخ نضاله الفكري والعلمي جيداً. فحرية الفكر بالنسبة له قضية مقدسة. وقضية التجديد الديني، والتجديد الفكري بشكل عام، مسألة ذات أولوية منذ أن عاد من إنجلترا عام 1914، وهو ممن لا يضعف أمام المدح ويستمال بواسطته. ولا يعنيه في كثير أو قليل أن يثمنه أديب بحجم سيد قطب أو حجم أضخم منه كثيراً. وقد نسي سيد قطب في غمرة انفعاله الغاضب على كتاب القصيمي، أن إسماعيل مظهر أصلاً يقيمه هو وأستاذه العقاد تقييماً سلبياً.
أما اعتذاراته لإسماعيل مظهر فلقد كانت متكلفة وواهية، فإسماعيل مظهر لا يتحدث عن كتاب باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية إلا عن إحاطة تامة به. كما أن مناقشاته ومراجعاته تبين أنه مطلع على الحركة الفكرية في الشرق العربي، وفي مصر خصوصاً، وأنه مطلع على الفكر الإسلامي في القديم وفي الحديث.

يقول الأخ العزيز سليمان الخراشي في مقدمة كتابه «عبد الله القصيمي: وجهة نظر أخرى»: «وقد أوضح الشيخ تقي الدين الهلالي - رحمه الله - من كان يقف خلف القصيمي وكتابه السيئ (هذه هي الأغلال) حسبما ذكره الشيخ مسعود الندوي - رحمه الله - قائلاً: يقول الأستاذ الهلالي: إن أصل الكتاب من تأليف إسماعيل مظهر، والقصيمي ساعد فقط في تحريف وتأويل الآيات القرآنية والأحاديث».
إن يكن أخي العزيز سليمان تقليدياً وسلفياً، فليس من اللازب عليه أن يتبنى مماحكات التقليديين والسلفيين. فهو باحث حسن الاطلاع، ويعلم أن أصل هذه التهمة المفتراة هي صدور كتاب لإسماعيل مظهر قبل فترة قليلة من صدور كتاب القصيمي مشابه له في العنوان، وكان عنوانه «فك الأغلال»، ولأن إسماعيل مظهر احتفى كثيراً بالقصيمي وكتابه.
وعوضاً عن أن يكتب أخي سليمان في الهامش هذه المعلومة التوضيحية، كتب معرفاً بإسماعيل مظهر بأنه: «أحد ملاحدة الكتاب في مصر». وللتوضيح هذا الرجل عندما احتفى بالقصيمي وكتابه كان قد تخلى عن أطروحته الإلحادية العلموية. ولنفترض أنه كان في ذلك الوقت، كما زعم سليمان في تعريفه به، فلماذا لم يأخذ على سيد قطب تودده وملاينته ومداهنته لرجل ملحد؟! وللحديث بقية.