&علي الأحمد&&

قهوة الصباح في برلين، غالباً ما أتناولها عند السيد هيلمان، صاحب مخبز «بروكهايم» الصغير؛ وهيلمان مهنته خبّاز، وابنه يورجن، ذو العشرين عاماً، أمضى أربع سنوات في دراسة أسس المهنة، منها آخر سنتين في مخبز والده، شرطاً مسبقاً، ليصبح عضواً في غرفة التجارة والصناعة التابعة لولاية برلين، ومن بعدها يحق له أن ينضم إلى نقابة الخبازين في ألمانيا، ولكن على يورجن، أن يجتاز الاختبار النهائي، الكتابي والعملي، ليمنح لقب «خبّاز مبتدئ».
في ذلك الصباح البرليني البارد، وصل «الإيميل»، يزفّ خبر نجاح يورجن؛ كنت أشاهد الموقف عندما احتضن هيلمان، ابنه، ليقول لنا بنبرة فخر «أعلن لكم أيها الزبائن الأعزاء، بأن ابني يورجن، أصبح اليوم خبازاً مبتدئاً، وبذلك يمثل الجيل السادس لعائلتي في هذه المهنة».
سألت يورجن: «ماذا درست لتكون خبازاً ؟»؛ كنت مستغرباً لطول المدة في الدراسة الأكاديمية التي تصل إلى قرابة سنتين، ثم مرحلة الممارسة العملية.

أجاب يورجن «الخبز مرتبط بكل الحضارات الأوروبية، بل بحضارات أخرى كذلك. هنا في ألمانيا، منذ قرون كانت تخرج التظاهرات، عندما يرتفع سعر الخبز، بل كانت الممالك الألمانية القديمة تضع قوانين تحدد نسبة لاستخدام القمح في صناعة الخبز، بحسب حجم الحصاد السنوي، لضمان توفير الخبز للشعب، حتى تضمن التوازن وكي لا يذهب القمح، لصناعة مشروبهم التقليدي المفضل».&
سألت يورجن «بصراحة أنا لم أر في حياتي تنوعاً للخبز في محتوياته وأشكاله، مثلما أرى في المخابز الألمانية التقليدية، فكم عدد أنواع الخبز في ألمانيا»؟&
أجاب «لا أعلم العدد الإجمالي، ولكن هناك 300 نوع، صنّفت على مستوى ألمانيا أصنافاً رئيسية. وهناك لوائح وشروط لكل نوع، ولقد درستها جميعاً، وعليك زيارة متحف الخبر في مدينة «أولم»، لتعرف كيف تطورت معدات صناعة الخبز، عبر التاريخ، وتأثير ذلك في الاقتصاد».&

كان الأب هيلمان، يستمع إلى حديثنا، فقال «هناك مقولة تشيع بيننا، نحن معشر الخبازين، مضمونها أن الخِبازة لا تجعلك ثرياً، ولكنها لن تدعك معدماً، والمخابز الألمانية هي المحلات الوحيدة التي تفتح على مدار السنة، وتبقى كذلك في كل أيام العطل الرسمية والدينية».&
حاولت أن أتخيل حدوث السيناريو الذي شاهدته للتوّ، بين أب وابنه من جنسية غير ألمانية، فلنقل خليجية، وكان التخيل صعباً فقد لا يقتنع الكثير من الآباء الخليجيين بأن الدراسة والممارسة لمدة تصل إلى أربع سنوات، ثم الحصول على شهادة «خبّاز مبتدئ» هو الطريق الأمثل لمستقبل أولادهم.
هل هو اختلاف ثقافات؟ ربما ولكن ليس بالضرورة، فلو نظرنا إلى مرحلة ما قبل ظهور النفط، فسنرى الكثير من العوائل تعرف عبرها حرفة أبنائها سواء كان بحاراً أو نجاراً أو صائغاً أو خبازاً أو غيرها من المهن، وغالباً ما يكون لديهم المعرفة والخبرة في تلك الحرفة التي توارثوها أباً عن جد.
لا أتصور بأن الافتراض قائم الآن، ولو سألت أحداً يحمل في اسمه عن تلك الحرفة، فسيخبرك بمعلومات اكتسبها، بعد أن أفنى عشر دقائق من عمره متصفحاً «جوجل».
استطاع الألمان الاحتفاظ بهذه المهن وتطويرها، التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها مهن بدائية، خصوصاً ونحن نتحدث اليوم عن الذكاء الاصطناعي ومرحلة ما بعد الروبوت، لماذا وضع الألمان منهاجاً تعليمياً «أكاديمياً وعملياً» لمهن تشمل الخباز، والنجار، واللحام، والخياط، والمزارع وغيرها الكثير؟

في سنة 1969 أنشأت الحكومة الاتحادية برنامجاً تدريبياً يسمى «vocational training
»، هدفه وضع برامج تدريب موحدة، عبر الولايات الألمانية الست عشرة، يضمن بناء مهارات محددة لكل حرفة، وبذلك يصبح خريجو برامج التدريب المهني على مستوى متساوٍ لضمان جودة المنتج للحرف، وتشير الإحصاءات المتعلقة بالتدريب المهني في ألمانيا إلى الآتي:
- مدة البرامج تعتمد على المهنة أو الحرفة وتراوح بين 2 و 4 سنوات.&
- هناك أكثر من 330 مهنة وحرفة في ألمانيا تشترط التخرج في التدريب المهني.
- ثلث خريجي الثانوية في ألمانيا يلتحقون بهذه المدارس.
- مناهج هذه المدارس تُحدث سنوياً بسبب الحاجة الفعلية لسوق العمل وآخر تطورات الصناعة في كل مهنة وحرفة.
- 70 % من خريجي التدريب المهني ينضمون إلى سوق العمل.
- هناك 509 آلاف فرصة عمل سنوياً جديدة في ألمانيا لخريجي التدريب المهني.&
- أكثر من 51% من العمالة الماهرة في ألمانيا، خريجو هذه البرامج.&
- البرنامج مبني على الشراكة مع الشركات الألمانية، وهناك 430 ألف شركة ألمانية تشترك فيه.
- تعد ألمانيا من أكثر دول العالم بنسبة العمالة الماهرة، ومن أقل الدول في نسبة البطالة بين الشباب.
- نجحت التجربة في ألمانيا، وبنسب متفاوتة في النمسا، وسويسرا، والدنمارك، ويحاول الاتحاد الأوروبي حالياً، نشر هذه التجربة في إيطاليا، وسلوفاكيا واليونان والبرتغال.
أخبرني أحد المديرين في التدريب المهني «ليس من الضروري أن تكون جامعياً لتكون ناجحاً، مادام لديك مستقبل مهني ينمو ويتطور». ولكنه أكد أن متطلبات سوق العمل والتركيبة السكانية، وقطاعات سوق العمل، هي ما تحدد الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لكل دولة.
أما الشراكة بين مراكز التدريب والشركات أو الجهة التي ستوفر الوظائف مستقبلاً، سواء كان قطاعاً حكومياً أو خاصاً هي قاعدة هذه البرامج.
هنا في هذه العاصمة الأوروبية العريقة الحالمة، لا تأتي الدروس المستفادة من ساسة البوندستاج المخضرمين فقط، وليست حصراً على جهابذة الاقتصاد الألماني؛ ما عليك إلاّ أن تصغي إلى أصوات المجتمع الألماني باختلاف ألوان طيفه، لتدرك كيف يؤمن هذا الشعب بعقيدة الإتقان الممنهج، والكمال هو ليس نهاية المطاف، فهم يبدؤون منه، ليبنوا عليه، وعندها يصبح الكمال ثقافة للتطوير، يحفزنا لتترسخ فينا فلسفة أن القادم أجمل.&
شكراً لك أيها الخبّاز.


*سفير& دولة الامارات المعين لدى فرنسا

&