& محمد حسن مفتي

تحتاج الكثير من الأمور التي تواجهنا في حياتنا لأن نتفكر فيها بروية وبتمعن ودونما تشنج، لأن هذا هو المنهج الأفضل الذي سيقودنا حتماً للتوصل للقرار الصائب، ولعله من المعروف أن المجتمعات الشرقية المحافظة تميل بطبيعتها للشك والتردد والحذر المفرط، أكثر من ميلها للحزم والحسم عند اتخاذ القرارت، ولا سيما المصيرية منها، ونظراً للطبيعة المميزة لهذه المجتمعات نجد الكثير من أبنائها قد تأثر بها كثيراً، ليس في حياتهم الشخصية والاجتماعية فحسب، بل وخلال حياتهم العملية أيضاً.

عندما يتقلد البعض من هؤلاء المناصب القيادية أو الإدارية، تتأثر مسيرة العمل بطبائعهم وبسماتهم الشخصية، فنجد مثلاً بعضهم ممن تغلبه نزعة الشك على نحو لا إرادي، يتصرف بحذر مبالغ فيه مما يصيب بيئة العمل بالبطء والركود والتردد، ونتيجة لهذا الحذر غير المبرر أيضاً نجدهم يميلون للمركزية عندما يتعلق الأمر بعملية اتخاذ القرارات، فنتيجة لكونهم لا يثقون إلا بأنفسهم وبآرائهم يمركزون صيرورة العمل بين أيديهم فحسب؛ باعتبارهم الأكفأ والأكثر جدارة وقدرة على تحمل مسؤوليات العمل، مما ينتج عنه حالة من الشلل والتباطؤ وفقدان ولاء الموظفين وانتمائهم لمؤسساتهم.

وبخلاف التشدد الذي صاحب نشأة البعض منذ الصغر والذي تعاني منه بعض البيئات المحافظة المغلقة، تؤثر بعض التجارب السيئة في بعضهم مما يجعلهم ميالين للانغلاق والتشدد وتغليب المنظور السلبي خلال تعاملهم في المجتمع مع الآخرين، وهذا النمط من الأشخاص عادة ما يميل لتعظيم رأيه والمبالغة في مدى صحة آرائه، والتصرف على نحو أناني غير مقبول في غالبية الأحوال، وهذه الأنانية تجعلهم معتقدين أن حلول المشكلات واحدة ولا تحتمل خيارات، مما يقودهم لتنصيب أنفسهم أوصياء على الغير.

يريد هؤلاء الأوصياء من جميع أفراد المجتمع أن يدوروا في فلكهم فحسب، فإن أحبوا شيئاً فعلى الجميع أن يحذوا حذوهم في حبه، وإن بغضوا أمراً فعلى الجميع نبذه وعدم الاقتراب منه، وذلك حتى على مستوى التعاملات اليومية وليس فيما يتعلق بالقرارات المصيرية فحسب، ونذكر أنه في ستينات القرن المنصرم أقرت الدولة حينذاك تعليم الفتيات على المستوى الوطني، غير أن ذلك القرار جوبه بمعارضة فئة كبيرة من الأشخاص، وربما كان بعضهم من غير المهتمين بالتعليم من الأساس، غير أنه بمرور الوقت، وبعد مضي فترة كافية من الزمن ترسخ خلالها تعليم الفتيات في المملكة، وغدا الجميع راغباً بل ومتلهفاً على تعليم جميع أفراد أسرته، سواء كانوا من البنين أو من البنات.

من المؤكد أن هناك الكثير من السلوكيات الاجتماعية يجتهد متبنوها باستماتة لتعميمها وقسر الآخرين على الالتزام بها، غير أن أصحابها يريدون ما هو أبعد من ذلك؛ إنهم يريدون من الدولة أن تتبنى وجهة نظرهم وتفرض على الآخرين اتباعها والاقتناع بها، فعلى سبيل المثال.. كان البعض –وربما لا زال- لا يؤيد قيادة المرأة، غير أنهم لا يكتفون بتطبيق ذلك على أسرهم، بل يريدون فرض وصايتهم على المجتمع برمته من خلال مطالبة الدولة بالاستمرار في تشريع الأنظمة والقوانين التي تمنع قيادة المرأة، وبقليل من التروي والتفكير سيجد هؤلاء أن ذلك بيدهم وليس بيد الدولة، فالدولة لا تستطيع إجبار امرأة على القيادة وهي لا تريد ذلك.

نعرف جميعاً جيداً أن الدولة لا تألو جهداً في منع وتجريم كل ما هو محرم، غير أن هناك الكثير من الأمور الاجتهادية التي تقع تحت تصرف المجتمع وتتشكل طبقاً لظروف كل أسرة، وقد نُشرت مؤخراً بعض الأخبار التي تم تداولها بشأن توجه الدولة للسماح لمن بلغ سن الواحد والعشرين –من الذكور والإناث- بالسفر بدون إذن من ولي الأمر، وهو ما أثار شهية البعض من المتبنين لمبدأ الوصاية للتعبير -من خلال قنوات التواصل الاجتماعي- عن استيائهم من ذلك، مستفيضين في شرح سلبيات مثل هذا القرار!

الحقيقة أن مثل هذا القرار «في اعتقادي» هو شكلي بالدرجة الأولى، ذلك أن السماح بالسفر أو منعه يعود بالدرجة الأولى للأسرة ذاتها وليس للدولة، وكون حدوث بعض الحالات الشاذة المتعلقة بهروب بعض الفتيات، فإن ذلك من باب الحوادث الطارئة والشاذة والاستثنائية، والتي لا يخلو منها أي مجتمع أبداً، وبالتالي لا يمكن تعميمها كما أنه لا يمكن محاكمة المجتمع كله ومعاقبته بتأثيرها، ومن الخطأ البين أن تقوم الدولة بتصميم الأنظمة والقوانين اعتماداً على الحالات الفردية الاستثنائية، فالدولة لا تُفصِّل القوانين طبقاً لمقياس كل فرد وتبعاً لأهوائه، بل تصمم السياسات العامة للدولة والمجتمع بما يتوافق مع شرع الله وبما يلائم الصالح العام لأبناء المجتمع.

وبخلاف ذلك، هناك سؤال ملح يفرض نفسه: هل يمكن للقيود المفروضة على سفر المرأة دون موافقة وليها أن تسهم في الحد من حالات الهروب، من المؤكد أن الإجابة لا، فالقانون لا يمكنه منع حدوث حالات شاذة استثنائية، فهناك الكثير من الفتيات اللاتي يسافرن مع أسرهن للسياحة أو للدراسة، ولو أردن الهرب لهربن وهن بالخارج، بمنتهى البساطة والسهولة، غير أن ذلك لا يحدث إلا فيما ندر، ولا يستطيع أي نظام مهما بلغ تشدده في الحد من ذلك.

نحن بفضل الله مجتمع متماسك يحسن فيه الآباء تربية أبنائهم ذكوراً وإناثاً، ولا أظن أبداً أن أي امرأة نشأت في أسرة متماسكة ستقدم على قرار السفر في حال رفض ولي أمرها، حتى لو سمح لها النظام بالسفر دون الرجوع إليه، فالأمور الاجتماعية ترتبط بالنشأة وحسن التربية وتعتمد على العلاقات التراحمية العميقة، أما التعنت والتشدد في إعداد القوانين والأنظمة فلا يؤدي أبداً لتشكيل مجتمع متماسك ومحافظ، بل يؤدي لنوع من القمع الخفي من فئة تحترف الوصاية والتسلط وتسيء للمجتمع بكامله بدلاً من أن تقوم بحمايته أو تحافظ عليه.