& زهير الحارثي

&

&تغيّر الموقف السياسي غالباً ليس ضعفاً، بل هو شجاعة؛ لأنه إعادة نظر في قرار مبدئي بعد الدراسة والتمحيص، ومع ذلك الحلول الجذرية بحاجة لإرادة سياسية قادرة على فعل ما لا يستطيع الآخرون فعله..

الحياة المدنية تشكلها الثقافة والسياسة بتجلياتهما كافة وبغطاء من الوعي. ومع ذلك فالتغيير الشامل بطبيعة الحال لا يحدث في ليلة وضحاها، وإن كان يتفاوت مدى هذا التحول ما بين مجال وآخر، وكذلك وعي المجتمع أيضاً من حيث إنه درجات ومستويات، وبالتالي هناك علاقة طردية ما بين طبيعة التغيير وتأثير الوعي على فكر الإنسان، وأي اختلال فيهما أو ضعف، فإنه ينعكس تلقائياً على السلوك العام ومكانة المجتمع.

الكاتبان فوكوياما وهنتغتون يعتبران الهوية الثقافية والسياسية المستندة إلى ثقافة مشتركة لن تختفي في المستقبل المنظور، فالناس سيظلون يعرَّفون بشكل أولي على أساس الوطن والتقاليد والعادات والمجتمع المحلي. وأشارا إلى أن قوى العولمة تمارس سلوكاً مخالفاً لمبادئ الديموقراطية إن هي بادرت "بنزع القدرة عن المجتمعات المحلية في تحديد الكيفية التي تتم وفقها صياغة حياتها السياسية المشتركة". هذه الإشكالية تقودنا لتساؤل حول أثر التغيير في السياسة والثقافة، وهل من تفاوت بينهما؟ الإجابة تكمن في الفارق ما بين المصلحة والقناعة وفق رؤية المفكر المغاربي عبدالإله بلقزيز. يعتقد بأن شعوب الأمم تملك أن تغير خياراتها السياسية والاقتصادية في كل فترة زمنية معينة، لكنها لا تملك أن تغير ثقافتها ومعاييرها بالسرعة ذاتها التي تغير بها نظرتها إلى السلطة والسياسة، ولذا يقول: إن "الفارق كبير بين المبدأين، فمبدأ الأولى هو المصلحة، أما مبدأ الثانية فهو الاعتقاد والاقتناع، فالثقافة لا تتغير من جيل إلى جيل أما المصالح فتتغير".

يرى بلقزيز ويتفق معه كثيرون في "أن التغييرات في مجاليْ السياسة والاقتصاد قد تأخذ عقداً أو عقدين بعد الثورة، لتتبين ملامحها، في حين أن التغيير الثقافي والاجتماعي يأخذان زمناً أطول قد يستغرق جيلاً أو جيلين". مشيراً إلى عدم تجاهل" القوانين الموضوعية في التطور الاجتماعي ومنها قانون التطور المتفاوت بين سياسي/ اقتصادي، واجتماعي/ ثقافي".

المعيار الأساسي هنا هو الوقت، "فزمن التطور في السياسة والاقتصاد كما يرى الكاتب غير زمن التطور في الثقافة والاجتماع. فالأول زمن وقائعي أي محكوم بزمنية الوقائع، أما الثاني فزمن ثقافي أي يتعلق بمنطق التطور طويل الأمد". وبين الزمنين تفاوت في التطور، فالزمن المادي الذي تخضع له العلاقات السياسية والاقتصادية أسرع إيقاعاً من الزمن الثقافي".

وفي ذات السياق نعرج على السياسة التي يسمونها فن الممكن. تجد المرونة والبراغماتية والواقعية السياسية كلها ضرورات حتمية وحلولاً لتراكمات أو قرارات فرضتها عوامل الزمن والتاريخ واستدعتها معطيات. قواعد اللعبة السياسية، منذ أن عرفت السياسة طريقاً لها، لا تعرف الثبات وتتغير متى ما سنحت لها المعطيات، وهذا بطبيعة الحال ينتهي بتموضع جديد لموقعها.

على سبيل المثال إذا تغير موقف دولة ما إزاء قضية معينة فهذا لا يعد خطأً أو تجاوزاً بل هو من حقوقها المشروعة، ويعكس بجلاء قدرتها في التعاطي السياسي. بعبارة أخرى قد تجد دولة تتمسك بموقفها إزاء قضية ما على الدوام رغم تغير الظروف والمعطيات ما يجعله أمراً لا يمت للسياسة بصلة بل هو في الحقيقة جمود في التفكير السياسي. تغيّر المواقف السياسية أمر متصور ومقبول في العمل السياسي بل وأحد مفاعيله. ليس عيباً أن تغير موقفك بعدما رأيت شيئاً لم تكن تراه. المواقف السياسية تتبدل، فهي ليست نصوصاً مقدسة بل لها القابلية للتغيير والمرونة، فالعبرة بتحقيق المصلحة، وهو المعيار في نهاية المطاف. هذا الأسلوب يعني تشكل ملامح جديدة في المشهد السياسي الدولي، وربما يعني أيضاً تحالفات جديدة وتنسيق مواقف وبناء شراكات استراتيجية. لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن العالم والنظام الدولي، ومنذ التسعينات لم يستقر بفعل سياسة المحاور والمشروعات. تغير الموقف السياسي غالباً ليس ضعفاً بل هو شجاعة؛ لأنه إعادة نظر في قرار مبدئي بعد الدراسة والتمحيص، ومع ذلك الحلول الجذرية بحاجة لإرادة سياسية قادرة على فعل ما لا يستطيع الآخرون فعله. ما بين السياسة والثقافة تعيش الشعوب وقد يكون الأثر سريعاً أو بطيئاً، غير أن تنمية الدول لابد أن تكون بوصلتها اقتصادية وثقافية وعلمية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية. بعبارة أخرى ترتكز على الإنسان؛ لأنه هو منطلق الحضارة.