رامي الخليفة العلي

على مدى الأسابيع الماضية ومحافظة إدلب وكذلك الريف الشمالي لمحافظة حماة تتعرض لهجوم شرس من قبل قوات النظام السوري والمليشيات المتحالفة معه، هذه المنطقة تخضع لسيطرة فصائل المعارضة السورية المسلحة وكذلك جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة المصنف إرهابيا، وهي تخضع لتفاهمات إستانة واتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، والذي ينص على وقف إطلاق النار في هذه المنطقة وإبعاد الآليات الثقيلة التابعة للمعارضة السورية عن مناطق سيطرة النظام. ولكن منذ اللحظة التي تم فيها توقيع اتفاق سوتشي والخروقات بدأت من قبل قوات النظام، حيث دمشق لم تكن راضية عن هذا الاتفاق ونظرت إليه كما موسكو باعتباره اتفاقا مرحليا ريثما يتم تمهيد الأرضية السياسية والميدانية لاستكمال سيطرة النظام على شمال غرب سورية كاملا. وبالتالي التقدم في منطقة إدلب وريف حماة كان هدفا واضحا للنظام وبإسناد روسي. إلا أن المعضلة التي واجهت قوات النظام وروسيا هي نقاط المراقبة التركية التي تم إنشاؤها وفقا لاتفاق سوتشي، فلا النظام السوري ولا روسيا يرغبان بمواجهة مفتوحة مع الجانب التركي، لذلك بدأ الضغط على فصائل المعارضة السورية التابعة لتركيا، وتعرضت مناطق سيطرة تلك الفصائل إلى قصف سجادي من قبل روسيا وقوات النظام. هناك عامل آخر دخل على الخط وهو توسع سيطرة جبهة النصرة المصنفة بأنها تنظيم إرهابي لدى معظم دول العالم بما فيها تركيا، وقد استطاعت الجبهة السيطرة خلال الشهور الماضية على مناطق واسعة مما أعطى روسيا والنظام المبرر أمام تركيا وأمام الرأي العام لاستمرار القصف الوحشي على تلك المناطق، بينما تركيا وقفت تراقب ما يجري دون أن تفعل الكثير، بل إنها أوعزت إلى الفصائل التابعة لها بالانسحاب من المناطق التي أرادت النصرة السيطرة عليها. كل ذلك أوجد حالة من عدم الوضوح في الموقف التركي، فلا تركيا أصرت على تنفيذ بنود اتفاق سوتشي، ولا قامت بدعم الفصائل التابعة لها عسكريا لتستطيع مواجهة قوات النظام والمليشيات المتحالفة معه، بالمقابل لم تقم بسحب جنودها من نقاط المراقبة الإثني عشر التابعة لها، بما يعني القبول بالأمر الواقع وباستكمال سيطرة النظام على هذه المناطق والاكتفاء بمناطق درع الفرات وغصن الزيتون. إذاً كيف يمكن تفسير وفهم السياسة التركية الملتبسة في إدلب وفي إطار الملف السوري برمته؟

السياسة التركية في الملف السوري مرت بمرحلتين؛ الأولى منذ انطلاق الثورة السورية وحتى المحاولة الانقلابية الفاشلة، حيث أيقنت تركيا بأن التغيير حادث في سورية لا محالة، وأن عليها تهيئة الأرضية لمرحلة ما بعد الأسد، ومن هنا عملت تركيا في سياقين؛ الأول دعم المعارضة السورية وجعلها أداة بيد أنقرة، بحيث تهيمن على الوضع في سورية في المرحلة القادمة، ترافق ذلك مع قراءة خاطئة للمواقف الغربية وخصوصا الولايات المتحدة، حيث اعتقدت تركيا أن واشنطن تشاركها نفس الرغبة برحيل الأسد ولكن هذا لم يكن دقيق، وأخذت الخلافات بين الدولتين تتعاظم، بالمقابل أخذت تركيا موقف معارض بشدة للتدخل الروسي وبلغ التوتر بين البلدين حدا غير مسبوق مع إسقاط الطائرة الروسية. أما السياق الآخر فإن تركيا بالرغم من مصالحها الجمة في سورية فقد ترددت كثيرا في التدخل العسكري خشية أن يتحول هذا الملف إلى مستنقع (كما تحول لاحقا لها)، هذا التردد دفعت أنقرة ثمنه باهظا. أما المرحلة الثانية فهي التي أعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة، حيث حملت أنقرة الغرب جزءا من المسؤولية عن تلك المحاولة وحدثت المفاصلة معه. عند ذلك قرر الرئيس التركي الدخول في لعبة خطرة وهي الضغط على الولايات المتحدة من خلال العلاقة مع روسيا وكذلك الضغط على موسكو من خلال العلاقة مع واشنطن. لكن الولايات المتحدة لم تعبأ بتطور العلاقات الروسية ـ التركية ولم تقدم أي تنازل في أي ملف كما كان يأمل الرئيس التركي ويمني النفس، بل إن واشنطن زادت من تحالفها مع قوات سورية الديموقراطية (المليشيات الكردية) عدو تركيا الأول على الأراضي السورية. ردة الفعل الأمريكية غير المتوقعة جعل تركيا تذهب بعيدا في العلاقة مع روسيا وإيران وتم إذلال المعارضة السورية التابعة لأنقرة تحت مظلة إستانة وسوتشي، وتم العصف بمناطق خفض التصعيد التي كانت تركيا أحد الضامنين لها، وتم طرد فصائل المعارضة وإذلالها في اتفاقات المصالحة. تركيا كانت خاضعة لروسيا في الملف السوري وموسكو هي التي حددت حجم وطبيعة المصالح التركية وهي مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، ما عدا ذلك فإن روسيا ترى أن على تركيا أن لا تقف في وجه سيطرة النظام على إدلب وريف حماة.

أخيرا حدث ما تمناه أردوغان وهو الحصول على تنازل أمريكي يعطيه هامشا من المناورة في العلاقة مع روسيا، وتم التوقيع على ما اسميه اتفاق الأكذوبة بين واشنطن وأنقرة، حيث يبدو أن أمريكا وافقت على بداية التنسيق من خلال مركز عمليات لإنشاء منطقة آمنة في شرق الفرات، ونعتقد أن هذا حلم تركي لن يتحقق. الوقع الإعلامي لهذا الاتفاق حتى وإن لم يكن له مضمون حقيقي وهو ما يعشقه أردوغان، واعتقد أنه يسمح له بمعارضة صريحة لروسيا في إدلب، ولذلك أرسل قواته إلى خان شيخون في خطوة لن تغير في واقع فشل اللعبة التركية، ولكنها تبدو كرقصة الموت الأخيرة أمام التقدم العسكري الكبير لقوات النظام وحلفائه.