&&&
محمد السعد

يتركز اهتمام كثير من المؤسسات التعليمية والشركات الصناعية في بلادنا على نقل التقنية من خلال ما تستورده من آلات ومعدات متطورة من الخارج، وإن كان ذلك محموداً ومرغوباً، فإن ما يعتبر أكثر أهمية وأكثر طلباً وإلحاحاً هو العمل على توطين تلك التقنية، وليس فقط استخدامها واستهلاكها استهلاكاً سلبياً. أول طريق نحو امتلاك التقنية هو تعريب التعليم الجامعي في التخصصات كافة، ومحاولة تعزيز استعمالها في سوق العمل وفي مجال البحث العلمي، ودون الانطلاق من اللغة الوطنية فإن كل محاولات توطين التقنية سيكون مصيرها الفشل، وتجارب الأمم والشعوب التي انطلقت من خلال لغتها الأم خير شاهد على ذلك.

العجز عن تعريب التعليم سيؤدي إلى العجز عن إنتاج التقنية، وبالتالي العجز عن امتلاكها، وبذلك تقل قدرتنا في الاعتماد على الذات، ويزداد حجم التكاليف التي يتحكم بها منتج التقنية، ما يزيد ارتباطنا بثقافة المنتج وبلغته مع مرور الوقت، وكلما تأخر التعريب فإن تعلقنا بلغة الآخر سيزيد وتزداد معه مشكلة التعريب عمقاً وتعقيداً، حتى تصبح من المشاكل المستدامة في المجالين الاقتصادي والتعليمي.

ومن البديهيات أن كل مشاريع الابتعاث لا تقتصر أهدافها على التحصيل العلمي فحسب، بل أهميتها تتعدى هذا الهدف نحو هدف أسمى، وهو توطين المعرفة والتقنية حتى يسهل امتلاكها. ومن النتائج الإيجابية لتوطينهما: زيادة مهارة العاملين وتنمية قدراتهم وتطوير وسائل الإنتاج، وبكل تأكيد زيادة القدرة على منافسة المنتجات المستوردة، وبالتالي زيادة الصادرات الوطنية، ما يؤهلها مع مرور الوقت لاختراق الأسواق العالمية.

لا شك لدينا أن تعريب التعليم وتعزيز استعمال اللغة العربية في مجال البحث العلمي هو الخطوة رقم واحد نحو امتلاك التقنية، فلن تفيد كل المبالغ والميزانيات المليارية المرصودة للبحث العلمي، وبناء المنشآت التعليمية الفارهة، إذا لم تقترن باستقلالية لغوية هي شرط أساسي لكل مشاريع النهضة في بلدان العالم المتقدم.

وتعد المملكة من أكثر دول العالم في عدد الطلاب المبتعثين للخارج، والسؤال الذي يتبادر للذهن: هل نجح مشروع الابتعاث في تعريب التقنية أولاً، وفي توطين ونقل المعرفة ثانياً؟ وفي مجال التعليم العالي الجامعي: هل هناك بوادر تعريب للتعليم تشمل كل التخصصات بما فيها التعليم الصحي والهندسي؟.

إن تأخر مشروع التعريب حتى يومنا هذا في جامعات سعودية عريقة كجامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، يعكس مقدار الجمود والارتكاز على التلقين، والانغماس في وحل الاستهلاك المعرفي، والاعتماد على اللغة الأجنبية في التدريس يجعل من الصعب على الطالب استيعاب المقررات الجامعية، ويزيد من غربته العلمية ويشعره بعزلة محيطه الاجتماعي عن العلوم والعلوم الحديثة بشكل خاص. لا تزال جامعة البترول تقصي اللغة العربية عن محيطها الجامعي، فهي لا تزال تؤمن أن مستوى الطالب العلمي مرتبط بلغة التدريس، وجامعة الملك سعود أصبحت تقحم اللغة الإنجليزية فيما تبقى من تخصصات علمية إضافة للطب والهندسة، ما يؤكد أن مشروع الابتعاث لم يأخذ في الاعتبار مسألة التعريب، فضلاً عن أن اللغة الإدارية في أغلب شركات القطاع الخاص الكبرى هي اللغة الإنجليزية.

أعداد كبيرة من المبتعثين عادوا لأرض الوطن، وجزء كبير منهم انخرط في سوق العمل فعلياً، ولكن اللغة الإنجليزية لا زالت مهيمنة على سوق العمل السعودي، حتى تولد في القطاع الخاص تداول لغة هجينة بسبب ضعف تمكين الشباب من اللغة العربية وتعزيزها في سوق العمل، وبسبب ضعف آليات نقل المعرفة.

مع استمرار ابتعاث الطلاب العرب إلى الغرب وبأعداد غفيرة، علينا أن نتساءل فيما إذا كان نظام البعثات نجح فعلياً في تأسيس البحث العلمي وتوطين الإبداع التقني، أم أنه أدى إلى تعميق التبعية العلمية للعالم الصناعي؟ خصوصاً إذا عرفنا أن اللغة الإنجليزية يزداد انتشارها أكثر وأكثر في القطاع التعليمي والتجاري. فبعد مرور أكثر من قرن كامل من التتلمذ على يد الغرب لا بأس من طرح فرضية فشل مشروع الابتعاث خارج الوطن العربي وفشله في النهوض بالجامعات العربية.

&