أكرم البني

دافع السؤال هو المقارنة الظالمة بين الثمار الإيجابية التي قطفها السودانيون؛ لأنهم حافظوا على سلمية ثورتهم ولم ينزلقوا إلى لغة السلاح في مواجهة محاولات البطش والتنكيل باعتصاماتهم، وبين المأساة التي وصل إليها السوريون، بدعوى أنهم جازفوا وارتضوا تحويل نضالهم المدني إلى صراع عسكري. وربما الدافع هو الصدفة البحتة؛ حيث كان النقاش في أوجه احتدامه، في مثل هذه الأيام تحديداً، قبل ثماني سنوات، بين الناشطين المدنيين والسياسيين، حول مشروعية حمل السلاح، لتخلص غالبيتهم لتسويغه، شريطة اقتصاره على حماية المظاهرات من غدر السلطة.

في البداية، كان المتظاهرون في مختلف الأحياء المتمردة يسارعون لتسليم ما تتركه أجهزة النظام من مسدسات وبنادق رشاشة في زوايا الطرقات إلى مخافر الشرطة، ساخرين من محاولات إغرائهم بحمل السلاح؛ لكن الأمور تطورت بسرعة فاقت كل تصور، عندما نهجت القوات السلطوية، بشكل مبيت ومقصود وبتواتر مخيف، نهج إطلاق الرصاص العشوائي والقاتل على التجمعات المسالمة، مخلفة كل يوم العشرات بين قتيل وجريح.
&
وهنا ظهرت تساؤلات خافتة وخجولة في أوساط السوريين، حول المعنى والجدوى من استمرار الحراك السلــمي، حين يطلب من الشعب تقديم عنقه للذبح، بينما تعمل أجهزة السلطة سكاكينها فيه من دون رحمة، ثم أصبحت أسئلة جريئة وقوية طرداً مع تصاعد الفتك والتنكيل السلطويين، مثل: كيف لنا أن نصمد ونحافظ على سلمية الثورة أمام عنف منفلت للنظام، واستفزاز وإذلال لم يعرفا حدوداً؟! وأي خيار لدى المنشقين من الجيش غير اللجوء إلى سلاحهم للدفاع عن أنفسهم، ما داموا بانشقاقهم قد أحرقوا مراكبهم، وأصبح تراجعهم واستسلامهم أشبه بالوقوف أمام تعذيب انتقامي وموت بأبشع صوره؟ وكيف يمكن ردع متطرفين جهاديين ديدنهم الإرهاب أطلقهم النظام من سجونه، مراهناً عليهم لتشويه الحراك المدني وجره نحو العنف، أو محاصرة جماعات إسلاموية وجدت في مناخات التسعير المذهبي فرصة لوضع أجندتها الإقصائية والمتشددة موضع التنفيذ؟ ثم أنى يمكن مواجهة أصابع التدخل الخارجي وإغراء المال وتعويض قنوات التمويل، التي تناطحت لتغطية تكاليف استجرار السلاح، وحاجات أسر المقاتلين والجرحى والشهداء؟!

والحقيقة، فقد تضافرت حزمة من العوامل الموضوعية والذاتية التي لم تدفع فقط السوريين دفعاً صوب السلاح، وإنما حكمت أيضاً على ثورتهم ومطالبهم المشروعة بالهلاك. فهل كان لظاهرة الركون إلى السلاح أن تتقدم لولا انسداد أفق التغيير، واستحكام الاستعصاء السياسي، وفقدان أمل السوريين في دور عربي أو دولي يمكنه أن يوقف أو يحد من الاستخدام السلطوي المفرط للقوة، ويفرض مسارات تسوية لمعالجة الأوضاع المتفاقمة، بدليل فشل مختلف المبادرات العربية والعالمية لوقف العنف السلطوي، وعجز مجلس الأمن عن التدخل لحماية المدنيين، مع تكرار الفيتو الروسي الداعم للنظام؟!

ولعل ما زاد الطين بلة، غياب قيادة سياسية تحوز ثقة الحشود الثائرة، وقادرة على وضع أفضل الخطط لإدارة الصراع بأقل تكلفة وآلام. والقصد الإشارة إلى واقع المعارضة السورية، بتشتتها وضعف تأثيرها في قيادة الحراك الشعبي، وتقصيرها في ابتداع وتطوير أشكال من النضال السلمي، تمكن هذا الحراك من تحقيق خطوات ملموسة نحو الأمام، الأمر الذي عزز الموقف السلبي لقطاعات مهمة من المجتمع، بقيت خائفة ومحجمة عن الانخراط في التغيير جراء غموض البديل، واستسلمت لتشويش ومبالغات مغرضة في قراءة أحوال الثورة الناهضة ومآلها.

ألا يتحمل المسؤولية من أظهر في المعارضة السياسية حماساً منقطع النظير لسلمية الثورة، وكان يفاخر بتكاثر نقاط التظاهر، ثم انتقل، بسرعة غريبة، إلى تطرف معاكس، ليغدو من أشد المدافعين عن مواجهة العنف بالعنف، ومن أكثر المطالبين بمد المتظاهرين بالسلاح، أو بالتدخل العسكري الخارجي، متخلياً عن مسؤوليته في التشجيع على مزيد من النضال السلمي المدني، وفي ابتكار الطرق والوسائل الكفيلة بإبقاء المشاركة الشعبية في أفضل حالاتها؟!

وأيضاً، ألا يتحمل المسؤولية من رد على التسعير المذهبي السلطوي بتسعير موازٍ، ودعا إلى استباحة كل شيء كما يفعل النظام، ورفض الاعتراف بالدور الخطير للتيارات الإسلاموية المتشددة في التشجيع على العنف، فقلل من وزنها، وادعى أنها مجموعات مهاجرة ستترك البلاد بمجرد الانتهاء من مهمة إسقاط النظام، متهرباً من نقد ممارساتها القمعية وتجاوزاتها، حتى بعد أن وصلت سكينها إلى الرقبة، وطاولت كثيراً من المعارضين السياسيين والناشطين الإعلاميين؟!

والحال، هو أمر مفسر أن تتنامى في نفوس المحتجين، بعد أكثر من ستة شهور من الحراك السلمي المكتظ بالشهداء والمعتقلين، المشاعر بعدم جدوى المظاهرات في هز أركان النظام، وتفكيك لحمته الأمنية والعسكرية، وتالياً بعجز الطريق السلمي وحده عن إحداث التغيير. زاد الأمر وضوحاً التبدلات التي طالت القيادات الميدانية، حين تقصد القتل والاعتقال السلطويين إزاحة عدد غير قليل من الكوادر القديمة التي عرفت بنزعتها السلمية، وتولت تنظيم الاحتجاجات في مراحلها الأولى، لتتقدم الصفوف عناصر أقل عمراً وتجربة، وأكثر حماسة واستعداداً للتفاعل مع النتائج الإيجابية التي حققها اللجوء إلى السلاح أو التهديد باستخدامه، إن في حماية حشود المتظاهرين أو في ضمان سلامة عدد من أماكن الاحتجاج الساخنة. فكيف الحال مع النجاحات أو «الانتصارات» التي حققتها الجماعات المسلحة ضد قوات النظام، وفرضت ما صار يعرف بالمناطق المحررة؟

إن مأساة السوريين الحقيقية أنهم ابتلوا بسلطة استبدادية أنانية، لسان حالها يقول: «أنا ومن بعدي الطوفان»، ترفض الحلول السياسية، وتصر على إنكار مطالب المتظاهرين، وإظهارهم كأدوات تآمرية وطائفية يحل سحقهم. أو حين يؤجج إعلامها منذ اللحظات الأولى التعصب المذهبي والانفعالات العدوانية، ويغذي أبسط ردود الأفعال الطائفية الثأرية، حتى لو أفضى ذلك إلى جر البلاد كلها إلى العنف والاقتتال، وما يخلفاه من ضحايا ودمار! والأهم حين لا تضيع أي فرصة في تسخير القمع المفرط والبشع لتغذية ما يمكن من صراعات متخلفة، واستيلاد القوى المتطرفة وسربلتها بسربال تنظيم «القاعدة»، كي تتمكن، تحت ذريعة مواجهة الإرهاب وعصاباته المسلحة، وبدعوى الحفاظ على الأمن وحماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم، من إخضاع المجتمع كله لقواعد لعبة خطيرة ومدمرة تتقنها جيداً، وتمكنها من إطلاق يدها كي تتوغل أكثر في العنف والقهر، مدعومة بما تملكه من خبرات قمعية مشهودة لها، وبحلفاء يضاهونها فتكاً وتنكيلاً!