عبدالله بشارة

&مع صدور هذا المقال ربما يكون سفير الولايات المتحدة في الكويت السيد لورانس سيلفرمان - Lawrence Silverman، خارج الكويت منهياً عمله الذي استمر حوالي أربع سنوات، كان فيها من السفراء الذين نحتوا أسماءهم في ذاكرة مواطني البلدان التي عملوا فيها. جاء السفير سيلفرمان إلى الكويت بعد أن قضى فترة في سوريا، غاص فيها بالثقافة العربية، وتعلم فيها اللهجة السورية، وتناغم فيها مع الفولكلور السوري، واستمتع فيها بالموائد السورية، وأكمل حياته فيها بزواجه من المسؤولة عن الجانب الثقافي بالسفارة الأميركية في دمشق. وجاء سفيراً إلى الكويت بعد عدد من سفراء أميركيين كانوا مثالاً للجدية والانسجام مع الكويت، كان منهم السفير الأميركي خلال الغزو السفير ناثينال هاول – Nathaniel Howell، الذي تحدى جيش صدام حسين ووقف بصلابة في وجه التهديدات وعاش في السفارة دون كهرباء ودون ماء، معتمداً على بئر في حوش السفارة وعلى شطارة الأميركيين الذين لجأوا إلى السفارة بحثاً عن مأمن، وألف كتاباً عن تلك التجربة، قرأته بتمعن، ويحتوي على سجل يروي مسيرته بشجاعة نادرة ليس من السفير ومعاونيه فقط، وإنما من مواطنات أميركيات تزوجن كويتيين وتطوعن في خدمة السفارة ومن فيها، وتتكرر أسماؤهن في هذا الكتاب الرابع، وأذكر السيدة رشود Ms. Rushood، كما نتذكر سجل السفير ادوارد غنيم الذي قدم أوراق اعتماده للراحل الشيخ جابر الأحمد في الكويت، رغم أنه كان معتمداً لدى حكومة الطائف إلا أنه وبإصرار أراد أن يكون الاعتماد على أرض كويتية محررة من الغزو اللئيم.&

السفير سيلفرمان، عشق الكويت واستوطن في نبضاتها وتراقص مع ايقاع دواوينها، وأطربته موسيقاها، وتبلورت لديه معاني الكويت التي شدته في طموحها الانساني وانفتاحها الفكري وحيويتها الاجتماعية، فكان ينتقل من حفلات لوياك إلى جلسات مجلس الأمة، ويذهب إلى لقاءات الطلبة يحدثهم عن التعليم في الولايات المتحدة، ومناخها المشجع للابتكار والراعي للابداع في حرية كاملة وأجهزة حديثة. وتربطني بالسفير اتصالات وحوارات حول الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والكويت وأبعادها وما ترمز إليه ودورها في تعميق أعمدة الاستقرار وتوفير مشاعر الاطمئنان، وكنت أعبر له عن تقديري لدوره في شرح المحتوى الكويتي الممتع بتعدده الثقافي والسياسي وترابطه الانساني وتواجده ضمن المجتمعات العالمية المنفتحة.

كسبت الكويت فيه محامياً صادقاً ومتطوعاً يشرح تجاربه ويبرز اعجابه ويدون ملاحظاته للآخرين، ومن تجاربي أقدر أن أميز بين سفير جاد ولامع وسفير خايب وقابع، بين من يعشق عمله وبين من أتى إلى الوظيفة مبعداً وتحول إلى سائح متبرم.. رأيت الكثيرين داخل مبنى الأمم المتحدة من البارزين والخائبين، من المشردين ومن القلقين الذين لا ضمان لهم في البقاء، سواء في اليوم التالي أو اليوم الذي يليه، وتوجهوا إلى القادرين لمساعدتهم في وظيفة لهم في جهاز الأمم المتحدة. كان عدد كبير من السفراء في الأمم المتحدة يأتي ويقضي سنوات بلا تواجد، ففي الأمم المتحدة لا يوجد شرط يجبر السفير أن يتحدث ويخطب، لكن حياة الأمم المتحدة كلها خطب فمن لا يستهويه الكلام ويحبذ السكوت ضاع حقه في الوجود. في الكويت أقرأ عن سفير قابل سمو ولي العهد للوداع، فأسأل عن المدة التي قضاها في الكويت بلا حضور وبلا تواصل لأنه يمثل بلداً بعيداً، مصالحه في الكويت قليلة إن لم تكن معدومة، فلا يتوافر لديه الحماس للتحرك، ولا يملك الطاقة نحو معرفة البلد لكي يتعلم منه بما يفيده مستقبلاً. لا يمكن أن نتجاهل معاناة سفراء الدول العسكرية الثورية الذين يتم ابعادهم للعمل في السفارات، فكلما ابتعدت جغرافية السفارة زاد اطمئنان الذين أبعدوه من زعماء الانقلابات بانعدام قدرته على المعارضة.. كان العراق في العهد البعثي العسكري أصدق الدول في ممارسة هذه اللعبة الأمنية، فرغم أن الفريق صالح مهدي عماش من أقطاب البعث ومن كبار المتآمرين الانقلابيين، فإنه تحول من نائب رئيس الجمهورية العراقية إلى سفير في هلسنكي، عاصمة فنلندا، ليجمد فيها ويموت مكسورالحيل والخاطر، وكان معي في الأمم المتحدة سفير العراق المرحوم عبدالكريم الشيخلي، الذي كان قطباً للبعث وصديقاً لزعيم الاغتيالات صدام حسين، ووزيراً للخارجية، أبعده صدام حسين إلى الأمم المتحدة ولم يكن مرتاحاً وظلت الابتسامة عصية عليه، وكانت حياته في هلع خوفاً من الاغتيال أو الاستدعاء إلى السجن، والحقيقة أنه استدعي إلى بغداد وذهب ليدفع فاتورة الكهرباء فقتل على الطريق، وماذا عن المرحوم حردان التكريتي، شريك عماش في التآمر، من وزير الدفاع إلى سفير في السويد، فيرفض ويبعد إلى شمال أفريقيا، فتلاحقه أجهزة البعث لأنه شقي وطموح فتصرعه في الكويت في سيارة السفير العراقي البعثي مدحت جمعة العارف بالمؤامرة الدنيئة.

وللسفراء مغامرات مثل غيرهم من البشر، لكن بعضهم يسقط ضحية للنزوات، وهنا لا يوجد فرق بين سفراء من دولة فقيرة أو سفراء من دولة ثرية، فالعواطف الجامحة لا تعرف الحدود ولا تتوقف عند الجغرافيا وإنما تطير مع السفير العاشق إلى فصل مبهج غير مضمون لا في استمراره ولا في نتائجه.. كان أحد سفراء بريطانيا العظمى مسؤولاً في الخليج، ثم نقل إلى بيروت، وهناك عشق زوجة أحد الموظفين، فيتم نقله بعيداً إلى أميركا الجنوبية، فضحايا العشق في السلك الدبلوماسي لا تظهر أسماؤهم علناً وإنما تبقى محمية في أرشيف الزمن. في نيويورك كان لي صديق من أميركا اللاتينية ومن بلد فقير، كان متزوجاً من سيدة هندية مناسبة للمهنة، لكنه لم يرتدع فوقع في غرام سيدة تركية تعمل في الأمم المتحدة، ولا أعرف كيف تمكن من اقناعها بالزواج، وهي من طبقة غنية ثرية جاءت لتتعلم في الأمم المتحدة، فغامرت وانتهت بالانفصال بعد زواج تعيس، وتم ابعاد الرجل عن مهنته، ولا أدري كيف تسلل إلى عشق امرأة خليجية ارتبطت به وانتهى بعيدا عن نيويورك يلاحق الزوجة حيثما تكون. هذه لوحة موجزة – بورتريه - عن حياة الدبلوماسيين، لكن الأغلبية المطلقة تسير وفق المعايير المعروفة، ويبرز منهم من يقع أسيراً لمزايا عشقها في الدولة المعتمد فيها، وصديقنا سفير الولايات المتحدة أحد الذين أخذهم العشق نحو الكويت في ثقافتها وعادتها، وتكاثف حياتها الاجتماعية ورمزيتها، وكان عشق الكويت امتد إلى زوجته التي تشاركه اعجابها بما وجدته، خاصة أنها أقامت شبكة علاقات مع هيئات الكويت النسائية، وتجمعات المنظمات ذات النفع العام، وكسبنا سفيراً من الولايات المتحدة كمبعوث دائم يتحدث عن بلدنا بلغة الحق والانصاف، وعزز الترابط ليس فقط مع دبلوماسية واشنطن، وإنما مع جميع مؤسسات الحكم فيها، ومنها لعب السفير سيلفرمان أجمل الأدوار... عبد الله بشارة

&