&محمد نور الدين

إن تركيا لم يشهد تاريخها صداماً عسكرياً مباشراً جدياً مع الأمريكيين، ولا يُعتقد أن ذلك قد يحصل شرقي الفرات أو في أي مكان آخر.
أيام قليلة جداً وتنقضي المهلة التي حددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للولايات المتحدة كي تمضي قدماً في إنشاء وتفعيل ما سمّي ب«المنطقة الآمنة» شمال شرقي الفرات في سوريا.
في الأساس ما يتفاهم عليه الطرفان التركي والأمريكي هو خارج أي شرعية دولية أو غير دولية، تماماً مثل التفاهمات الروسية التركية حول مناطق درع الفرات وعفرين وإدلب. الكل يخطط ويتفق على مناطق ليست لهم وفي دولة أجنبية ثالثة هي سوريا.
ولكن بما أن التاريخ يكتبه الأقوياء ولا علاقة له بالحق والعدالة والشرعية، تسرح القوى الإقليمية والدولية في سوريا، وغير سوريا، من دون حسيب أو رقيب.
ومع ذلك، فإن تناقض المصالح حتى بين أطراف التفاهمات الواحدة يجعل الصراعات والتموضعات محكومة بتوازنات تكاد تصل في سوريا إلى نقطة «الستاتيكو»، غير الوارد في المستقبل المنظور أن يشهد تحولات جذرية.
من هنا، فإن اللاعبين المؤثرين يلعبون أدواراً تقع في خانة تعزيز الموقع وحشد أكبر قدر ممكن من أوراق القوة، تمهيداً للمرحلة النهائية؛ أي الحل السلمي بين أطراف الصراع داخل سوريا، ومن خلفهم القوى الإقليمية والدولية المؤثرة.
يبدو الوضع في مناطق جرابلس وأعزاز والباب وعفرين «مستقراً» على احتلال تركي لا يزعج سوى النظام السوري، فيما الوضع في إدلب يمتاز باستقرار نسبي ترعاه تركيا بغطاء روسي صريح وعلني. ومع أن تصريحات المسؤولين الروس تتكرر من حين لآخر حول عدم التزام تركيا بتفاهمات أستانا لضرب التنظيمات «المتشددة»، فإن اللقاءات الثنائية أو حتى الثلاثية، تؤكد المؤكد و«الستاتيكو» الذي لا يريد أحد أن يهزّه.
وحده أردوغان يتحرك ويحاول أن يدفع في اتجاهات مفتوحة سواء مع روسيا أو أوروبا أو وهنا الأهم مع الولايات المتحدة الأمريكية.
يجد أردوغان نفسه أمام كماشة ثنائية تتحكم وتحدّ من حركته السورية. فهو يدرك تماماً أنه مرتبط بتحالف عسكري متين مع الغرب بزعامة واشنطن، في إطار حلف شمال الأطلسي. وتركيا كلها منذ الحرب العالمية الثانية جزء من المنظومة الغربية التي عمادها ثلاثة:

حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والعلاقات التحالفية مع «إسرائيل».
وهي منظومة بنت لتركيا كل عماراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والاستراتيجية والفكرية، وهي عمارات لا تزال قائمة بنسبة عالية جداً تقارب تسعين في المئة؛ لذا تدرك تركيا أن أية حركة لها خارج هذه المنظومة لا تستهدف الخروج منها؛ بل المناورة لمحاولة التغطية على تبعيتها الكاملة للثلاثي الأمريكي والأوروبي و«الإسرائيلي»، وهو ما يدركه الغرب الذي يعرف أن تركيا لا تريد ولا تستطيع أن تغرد خارج سرب الغرب و«إسرائيل» دون دفع ثمن باهظ.
هذا تحليل يدعو بالفعل للأسف؛ أي أن يكون بلد مسلم لا يمتلك إرادة التحدي والاستقلال والخروج من التبعية لأسباب متعددة، منها رغبته القديمة في تزعم العالم المسلم، وهو ما جعله يدخل في صراعات ضد أشقائه في المنظومة الإسلامية، ولو كان أردوغان جاداً في خلافاته مع واشنطن حول سوريا، والمنطقة الآمنة، والأكراد، والتسلح، ولو كان جاداً في تهجماته المتواصلة على «إسرائيل» وسياساتها لكان أمامه مخرج بسيط هو الخروج في مرحلة أولى من العلاقة مع «إسرائيل»؛ لذلك، فإن التهديد التركي للولايات المتحدة بالتدخل الأحادي الجانب ل«تنظيف» منطقة شرقي الفرات من الأكراد بحلول نهاية الشهر الجاري إذا لم يتم التطبيق العملي لمنطقة الآمنة، هو تهديد غير واقعي؛ لأن تنفيذ التهديد يعني الدخول في صدام مع الولايات المتحدة، وهذا لا يمكن أن يمر بذهن أردوغان لحظة واحدة؛ لأن عواقبه ستكون وخيمة جداً على تركيا في أكثر من صعيد.

وفي حال تم تنفيذ التهديد دون الدخول في صدام مع واشنطن فهذا يفيد شيئاً واحداً وهو أن الولايات المتحدة متواطئة معه ضد الأكراد، وهذا أمر لا يمكن إسقاطه من الحسابات الأمريكية، حيث كانت هي نفسها اعتقلت زعيمهم عبدالله أوجلان عام 1999، وهي نفسها التي خذلت أكراد العراق في الاستفتاء على الاستقلال قبل سنتين.
في كل الأحوال، فإن تركيا لم يشهد تاريخها صداماً عسكرياً مباشراً جدياً مع الأمريكيين ولا يُعتقد أن ذلك قد يحصل شرقي الفرات أو في أي مكان آخر.

&