عاطف الغمري

&

إذا كانت حرب الجيل الرابع والخامس التي نراها الآن قد غيّرت خصائص وطبيعة الحروب، فإن الجديد فيها هو أن الولايات المتحدة، ربما تواجه مأزقاً استراتيجياً متطوراً.
في هذا العصر الذي يتصف بعدم اليقين بالنسبة لقدرة القوى الكبرى على التنبؤ بالأحداث أو السيطرة عليها وحين أفلت زمام الإمساك بالأحداث من أيدي هذه القوى التي اعتادت طويلاً أن تُمسكها بيدها، فإن اليقين الذي كان مقدوراً عليه من واضعي استراتيجيات هذه القوى قد تلاشى.
وكان من نتائج هذا التغير أن الإرهاب الذي كان نتيجة لصناعة الفوضى في دول أخرى، قد ارتد إلى ناحية صانعيه في الغرب، وأن سياسات الهيمنة التي قويت شوكتها إثر انتهاء عصر الحرب الباردة، قد لقيت في مواجهتها تحديات صنعتها مفاجأة بروز وصعود قوى جديدة قادرة على التأثير في الاستراتيجيات العالمية في تطور مضاد للهيمنة.
وقد كان مفهوم أو عقيدة اليقين، مؤسسة على وجود عقليات تمرست على إدراج الصراع مع الاتحاد السوفييتي، بحيث صارت مقاييسها مؤكدة بشأن ما هو قائم وما هو محتمل في الصراع العالمي.
لكن مخزون هذه العقليات أخذ ينفد، فالصراع مع الاتحاد السوفييتي كانت تحكمه مقاييس وقوانين مرعية، بينما التحديات الجديدة في هذا العصر تشارك فيها أطراف ليست دولاً، وليست ملتزمة بأي قواعد أو قوانين أو قيم إنسانية.
في أجواء هذا النظام الجديد قامت الولايات المتحدة عام 1989 بصياغة نظريات جديدة للحرب، عرفت بحرب الجيل الرابع، ولحق بها تعبير حرب الجيل الخامس، كبديل عن شكل الحروب التقليدية السابقة التي كانت تقوم على مواجهات بين الجيوش.

في مواجهة هذا التطور وبعد رصد النتائج العملية لهذه الحرب، وما ظهر من خلال ممارستها من نتائج سواء كانت إيجابية أو سلبية من وجهة نظرهم فإن مراكز دراسات متخصصة في عالم الحروب والإرهاب، بدأت في فحص وتوثيق مسار حرب الجيل الرابع، واستشراف مستقبل هذا النوع من الحروب، دون التوقف فقط أمام ممارساته الأولية التي جرت مع بدء تطبيق نظريات هذه الحرب.
إحدى هذه الدراسات التي لقيت اهتماماً واضحاً، تنسب إلى البروفسور دونالد ريد المتخصص في الدراسات العلمية ذات الصلة بالسياسة، والحائز عام 2016، جائزة الإدارة والسياسة العامة من جامعة والدين، وقد اهتم في دراسته بداية باستعراض نظريات حرب الجيل الرابع التي تستهدف مجتمع الدولة الخصم بحرب نفسية، لتقويض الغريزة الأساسية للبقاء لدى الإنسان، وإشعال نيران عدم الثقة بين السكان وقيادة الدولة، وإثارة الصراعات الداخلية وما تبعها من مفهوم حرب الجيل الخامس الذي يركز على عقلية وتماسك أفراد المجتمع، وهدم ثقتهم بأنفسهم وبدولتهم. تقول الدراسة إنه إذا كانت حرب الجيل الرابع ثم الخامس التي نراها الآن قد غيّرت خصائص وطبيعة الحروب، فإن الجديد فيها أن الولايات المتحدة ربما تواجه مأزقاً استراتيجياً متطوراً، يرتد نحوها بضربات لم تكن في حسبان واضعي هذه الحرب، وهو ما عكسته الحرب على الإرهاب الذي استخدم كافة وسائل حرب الجيل الرابع، والتي ارتدت ضرباتها إلى دول الغرب.

ويرى خبراء أن الولايات المتحدة يلزمها وضع استراتيجية من شأنها خلق استعداد قومي شامل يحشد المجتمع في مواجهة أي ضربات مستقبلية متوقعة من هذه الحروب.
ويركز الخبراء على أربعة عناصر رئيسية يتم إلحاقها بمفاهيم حرب الجيل الرابع والجيل الخامس، وهى: تحديد المجال الجديد للحرب، وتغير طبيعة الخصوم، وتغير طبيعة الأهداف، وتغير طبيعة القوة المستخدمة، وذلك من أجل بناء تصور استراتيجي معاصر للحرب يأخذ في الحسبان ما لم يكن قد تم توقعه في إدارة هذا النوع من الحروب، ومن ثم أخذ أحداث في الاعتبار ربما تقع حتى ولو كانت إلى الآن مستبعدة، وتشمل ما يجري من اختراق أجهزة الكمبيوتر والتطور الذي لحق بفكر تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وأي أحداث مشابهة لما جرى من هجمات في الولايات المتحدة عام 2003، باستخدام غاز anthrax القاتل، وأن مثل هذه الأحداث تعتبر مؤشراً لحروب المستقبل، بعد أن غيرت التكنولوجيا الحديثة من طبيعة الحرب.
ويرى خبراء أنه يجب على الولايات المتحدة ألا تكتفي بالتخطيط الذي بدأته عام 1989 لاستراتيجية حرب الجيل الرابع؛ بل تضيف إليها العناصر الجديدة التي أفرزتها تجربة إعلان هذه الحرب، سواء كانت إيجابية أو سلبية، إذا ما كانت تريد أن تنجح في مواجهة ما جلبته التجربة العملية لهذه الحرب، وما أظهرته من مؤشرات لم تكن في الحسبان.

&