& رضوان السيد


في الذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء النادي الثقافي العربي في بيروت، نظّم النادي مؤتمراً عنوانه «تجديد العروبة»، حاضر فيه 15 مفكراً وكاتباً مستعرضين ما جرى للفكرة العربية خلال أكثر من قرن. وقد انقسمت المداخلات ثلاثةَ أقسام: القسم الأول من الكاتبين انصبّت مداخلاتُهم على المتغيرات الشاسعة التي ضربت الفكرة وسياساتها، وكونها اختفت من الأفكار والسياسات. أما القسم الثاني فانطلق من أنّ الأوضاع العربية الراهنة تقتضي العودة إلى العمل المشترك على كل المستويات وفي كل المجالات. أما الفريق الثالث، وكنتُ منهم، فقدّم تحليلاً لظهور العروبة، حركةً جماهيرية، دفعت لإنشاء الجامعة العربية، لكنها ما تحولت إلى فكرة استراتيجية وسياسات دول إلا بقيادة مصر فيما بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين. وباعتبارها قضيةً استراتيجيةً وسياسات دول، حقّقت الوحدة بين مصر

وسوريا (1958 -1961)، وصارت مركز الثقل في الصراع مع الصهيونية على فلسطين، ودخلت على الصراع بين الجبارين في الحرب الباردة. وبالمقابل، وفي الحرب الباردة الثقافية، بدأ استخدامُ الإسلام ليس في مقابل فكرة العروبة وسياساتها بالضبط، بل في مواجهة القوميين المندفعين باتجاه الماركسية. وفي أواسط الستينيات اندلع الصراع الثقافي الذي أضرّ بالفكرة العربية كثيراً. كان الانفصال قد وقع عام 1961 وهي ضربةٌ في صميم استراتيجيات العروبة.
انصرف الإسلاميون («الإخوان» وحلفاؤهم) لمجادلة الاشتراكية العربية، فتحدثوا عن الإسلام في مواجهة الماركسية. بينما انصرف اليساريون القوميون إلى نُصرة الاشتراكية التقدمية في مواجهة «الإسلام الرجعي». وفي 1974 انعقد مؤتمرٌ بالكويت عنوانه «أزمة الحضارة العربية»، وانصبّت الدراسات فيه للهجوم على الموروث الإسلامي الذي يسدّ على العرب أبواب الدخول في الحداثة.

والأهم أنه في السبعينيات ما عادت سياسات العروبة سياسات دول: خرجت مصر بالصلح مع إسرائيل 1977- 1979. وخرج النظامان البعثيان في العراق وسوريا باتجاه التصارع فيما بينهما. ثم خرج العقيد القذافي إلى الأفرقة. إنما المُلاحَظُ أيضاً أنه منذ السبعينيات ما عاد للعروبة جمهورٌ يحمل شعارات في الشارع، كما حصل من قبل في فلسطين وفي الوحدة والانفصال، وفي الاحتجاج على النكسة، وفي وفاة جمال عبد الناصر. وما تغيرت الشعارات وحسْب، بل تغيرت الساحاتُ أيضاً: أفغانستان وليس فلسطين، وشعارات الاحتجاج في حرب تحرير الكويت، وفي غزو العراق عام 2003. ثم الظواهر الجهادية السنية بالعراق وسوريا وليبيا، والشيعية في لبنان والعراق.. إلخ.
والحقيقة الصلبة الباقية هي الدول الوطنية القائمة، والتي كان البعثيون يسمونها قُطرية، ولها خصمان: الشموليات الدينية فوق الوطنية (جماعات الإسلام السياسي وظواهرها الجهادية والمليشياوية، السنية والشيعية)، والخصوصيات ما تحت الوطنية، أي الأقليات وتحالفاتها.

والطريف أنّ الشمولية الإيرانية المصرّة على التدامُج المطلق داخل إيران، هي التي تنشر في الدول العربية مليشيات الانقسام والشرذمة والطائفيات. وما نزال نكافح مع العالم العداء المليشياوي الداعشي للدولة الوطنية العربية. أما الشمولية الإيرانية فمنِطقُها كما قال لي كاتب إيراني: «سُنّة =عرب، وعرب= سُنّة»، لذلك فهم يعتبرون الدول الوطنية في العالم العربي: عربية، ويعتبرونها سنية!
أما الخصوصيات أو الأقليات، مثل الشعبويات الطائفية المنتشرة في لبنان وسوريا والعراق، فتطمح لتقسيم الدول وإعادة صناعتها على مثالها. وتأتي الشمولية الإيرانية لحمايتها واحتضانها، فالمهم عندهم: إسقاط الدول الوطنية العربية!
ويعني ذلك ضرورة التركيز على استنقاذ الدولة الوطنية مما تحت الوطنيات ومما فوقها. وما يُقال عن إصلاح الأنظمة، وإحلال دولة حكم الدستور والقانون، هي أمورٌ يمكن القيام بها مع الحفاظ على الدول الوطنية. وفي الحكم الديمقراطي الدستوري الصالح والرشيد، سيكون التوجه بالضرورة نحو إعادة أو تجديد نظام المصلحة العربية، بدلاً من الاشتراطات الحالية الطريفة مثل العروبة الثقافية والعروبة الحضارية. هكذا حصل في أوروبا بعد الحرب الثانية، فالدول الديمقراطية الجديدة أقامت السوق المشتركة ثم الاتحاد، وتحدثت في الثمانينيات عن هوية أوروبية ودستور أوروبي. فلكل الذين يؤْلمهم غياب العروبة بشقيها الثقافي والسياسي، نقول: الدولة الوطنية القائمة هي الدولة العربية، فلنعمل على تقويتها وإصلاحها لتتجدد بصلابتها العروبةُ.
&