عبدالحق عزوزي

لا يخفى على أحد أن تسيير الدول من الأمور الصعبة في تاريخ الأمم والقادة. وعندما يتعلق الأمر بدولة قوية كالولايات المتحدة الأميركية، فإن الأمور تكون أعقد، خاصة في مسائل الاقتصاد والدفاع والعلاقات الخارجية. فهناك عوامل داخلية وخارجية غير مستقرة وفي تطور مستمر، وتتداخل فيما بينها أحياناً.. فالعالم يتغير بسرعة كبيرة، ولا يستقر على حال يمكن وصفه بالديمومة أو الثبات، لذا فأي نظام إقليمي أو دولي هو في جوهره متغير وانتقالي على الدوام.. ما يجعل رئيس الولايات المتحدة، الدولة الأعظم في العالم، وصاحب القرار الأول في بلده، في حيرة من أمره إزاء قضايا كثيرة، وقد يعيد أخطاء أسلافه، كما قد يتبنى قرارات تمثل انعكاساً عجيباً ومريراً للتاريخ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وصول القادة إلى الحكم في الدول الكبرى بدأ يخضع لاستراتيجيات إغراء للناخبين ولسياسات عمومية جديدة ولذكاء تواصلي يُحدِث طلاقاً بائناً مع ما كان معروفاً في الانتخابات التي عرفتها تلكم البلدان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وقد أشار إلى هذا التحول، وبدقة، صاحب نظرية نهاية التاريخ، عالم السياسة فرانسيس فوكوياما، حيث أشار في مقال نشرته صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية بعنوان «الولايات المتحدة ضد العالم.. أميركا ترامب والنظام العالمي الجديد»، إلى أن الطريقة التي انتصر بها ترامب تُعري أسس الحركة الاجتماعية التي أوصلته للبيت الأبيض. فنظرة إلى خريطة التصويت تُظهر أن دعم هيلاري كلينتون تركز جغرافياً في المدن على طول السواحل، مع تصويت المناطق الريفية والمدن الصغيرة بقوة لمصلحة ترامب. التحول الأكثر إثارة للدهشة كان تسلله إلى بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن، الولايات الصناعية الشمالية الثلاث التي كانت ديمقراطية بامتياز خلال الانتخابات الأخيرة، والتي لم تكلف هيلاري نفسها عناء تنظيم حملة في الأخيرة منها. لقد فاز ترامب بأصوات العمال النقابيين الذين تضرروا من عدم التصنيع، واعداً إياهم بـ«جعل أميركا عظيمة من جديد»، عبر استعادة وظائفهم التي فقدوها.

لقد رأينا مثل هذا في قصة البريكست، حيث تركز الناخبون المؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في المناطق الريفية والمدن الصغيرة أيضاً. ويمكن أن نستحضر هنا أيضاً التجربة الفرنسية، ففي عز الانتخابات الرئاسية هناك ما كان أحد يتوقع للمرشح الشاب إيمانويل ماكرون الفوز مطلقاً، وما كان أحد يتصور أن القطبيتين السياسيتين التقليديتين اللتين طبعتا تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، أي اليمين واليسار، ستخرجان في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية. كان زلزالاً سياسياً كبيراً لأنه حتى بعض ناخبي اليمين واليسار صوتوا للمرشح الشاب، ما يعني أن الفرنسيين تغيرت نظرتهم تجاه السياسة وأهلها، وأن هناك أزمة حزبية وتمثيلية في إحدى أعرق الديمقراطيات في العالم. وقد نجح الرئيس الشاب في إقناع الجميع بضرورة التغيير الذي يجب ألا يصيب فقط القشور، وإنما أيضاً البنية الداخلية للحزب والأيديولوجيا والدولة والاقتصاد والمجتمع.
المهم من هذه العملية السياسية الطويلة والفريدة من نوعها، أن اليمين المتطرف لم يصل، وأن موجة اليمين القومي التي بدأت تجتاح بعض الديمقراطيات الغربية، لم تصب فرنسا، إذ لو أصابتها لتغيرت أوروبا كلها، ولتوقف الاتحاد الأوروبي، ولشهدنا صراعات داخلية ممتدة، ولأثّر ذلك على اقتصاديات الدول الأوروبية والعربية على حد سواء، ولأصابت العدوى جلّ الدول المجاورة التي ستخوض سياسات حمائية في سائر المجالات.

ولا ننسى أن هذه المرحلة التي تمر بها بعض الدول مرحلة دقيقة جداً، حيث يعيش المجتمع المدني والفاعلون الاقتصاديون والأمنيون في حلبة صراع جد ضيقة، ونحن نتابع ما يقع اليوم في أميركا من رغبة داخل الكونغرس في إزاحة الرئيس ترامب من كرسي الرئاسة، بسبب مكالمة هاتفية مع رئيس أجنبي وخروج مضمونها إلى العلن، وقد تابعنا ما عانته فرنسا من متاعب عندما خرج أصحاب السترات الصفراء إلى الشوارع للمطالبة بتغييرات اقتصادية ومجتمعية. إنها مرحلة دقيقة جداً، وأصحاب الشأن السياسي فيها مطالبون بشيء من الذكاء التنموي والاقتصادي.

&

&