& &أمين ساعاتي

&

صحيفة الـ"واشنطن بوست" إحدى كبريات الصحف الأمريكية العالمية العملاقة، وصاحبة أكبر الحملات المسعورة التي توجهها هنا وهناك، بدأت تتوجع من انخفاض ملحوظ في الإيرادات من الإعلان والتوزيع، والسبب الرئيس وراء انخفاض إيرادات الإعلان والتوزيع هو انصراف القراء عن الصحيفة التي وظفت رسائلها للنيل من بعض الدول، وبعض الشخصيات العالمية العامة والمهمة، وكذلك بدأ المعلنون يتوجهون إلى مصادر عصرية جديدة بدلا من الإعلان في صحيفة تعاني انخفاضا ملحوظا في عدد القراء والمريدين.
إن تراجع أعداد المعلنين في صحيفة الـ"واشنطن بوست" أسفر عن انخفاض ملحوظ في الإيرادات، مع زيادة ملحوظة في المصروفات والنفقات، وبدأت الصحيفة تسجل خسارة قدرت بنحو 26 مليون دولار، قابلة للزيادة في الأعوام المتعاقبة، وهي البداية لخسارات أكثر وأكبر، بسبب السياسة الرعناء التي تتبعها الصحيفة سواء سياسة التحرير المغرضة، أو سياسة الاعتماد على السوق المحلية فقط، وهو أسلوب قديم لم يعد مجديا في عصر العولمة والقرية الكونية.
ولذلك، رغم أن ظاهرة انخفاض إيرادات الصحف التقليدية طرقت أبوابها كلها تقريبا، إلا أن الوضع الذي تمر به الـ"واشنطن بوست" أكثر صعوبة لأن الصحيفة اعتمدت في مسيرتها على السوق المحلية فقط، بينما انتقل معظم القراء إلى الإنترنت وإعلام السموات المفتوحة.
ورغم أن الصحيفة حاولت إدخال كثير من الإصلاحات إلا أنها تخلفت كثيرا عن منافسيها فيما يتعلق بالابتكار على شبكة الإنترنت.

ومنذ وقت قريب اشترى جيف بيزوس الملياردير الأمريكي ومؤسس شركة أمازون صحيفة الـ"واشنطن بوست" بمبلغ 250 مليون دولار لينقذها من أزمة مالية كانت تهدد استمرار الصحيفة على قيد الحياة.
وبعد أن استحوذ جيف بيزوس على الـ"واشنطن بوست" أطلق تصريحا صاروخيا قال فيه: لن تكون هناك صحف مطبوعة بعد 20 عاما، لكن شراء بيزوس واحدة من أكبر المؤسسات الصحافية عراقة في العالم يعد قرارا مذهلا عند وضعه مع قائمة طموحات جيف بيزوس التجارية!
ولكن بيزوس استطرد قائلا: أريد أن أستفيد من هذه الصحيفة وهي في الرمق الأخير قبل أن تصبح مجرد تاريخ يحمل كثيرا من الذكريات والأحداث.

وإذا كان قرار شراء صحيفة آيلة للزوال مستغربا من رجل أعمال في حجم جيف بيزوس، فإن من اشترى صحيفة الـ"واشنطن بوست" هو من أسس شركة أمازون في عام 1994 حين كان في الـ30 من العمر، وأدار هذه الشركة من كراج منزله على أساس أن تكون متجرا لنشر الكتب في واشنطن، ولكن طموحاته أخذت بيديه ليصبح أكبر تاجر تجزئة على الإنترنت!
إذن من حق الناس أن ينتظروا من جيف بيزوس مفاجأة بحجم مفاجأة "أمازون" التي فاجأ بها العالم.
ولكن المؤسف أن بيزوس لم يضعنا أمام مفاجأة تنقذ الـ"واشنطن بوست"، بل فاجأنا بأزمة مالية كبيرة تتعرض لها الـ"واشنطن بوست"، وتعد بلا شك نوعا من التحدي الذي يتحدى كل إمكانات بيزوس التجارية والعملية، كما تعد الأزمة تحديا صارخا لفكر رجل من الجيل الجديد، وكانت تحتاج منه إلى طريقة تفكير جديدة وغير تقليدية، بحيث تفتح الطريق أمام صحافة عصرية جديدة في عصر تكنولوجي مبهر ومذهل.
باختصار، نحن هنا أمام رجل أعمال ناجح، كانت لديه خبرة في نشر الكتب والمحتوى، لكنه لا يمتلك أية خبرة في مجال الصحافة، وهو المجال الذي يمر بمرحلة دقيقة في فترة من أصعب فترات التاريخ الصحافي في العالم.
من الصعب أن نتوقع أن جيف بيزوس يستطيع أن يخرج من الأزمة التي تمر بها صحيفة الـ"واشنطن بوست" ناجيا ودون تحمل كثير من المغارم، حتى وإن استعان بالإنجازات السابقة التي حققتها الصحيفة، وبالذات إنجازها الفريد بكشف فضيحة ووتر جيت التي أطاحت بالرئيس نيكسون التي دائما ما يذكرها بيزوس وهو يشيد بصفقة شرائه الـ"واشنطن بوست"!
نحن من ناحيتنا لا نتوقع أن يخرج بيزوس من الأزمة التي تتعرض لها "واشنطن بوست"، التي باتت تواجه مشكلة عصرية تتعلق بالعصر الذي تعيشه الصحيفة أسوة بكل صحف العالم، فالإعلام اليوم يدخل عصرا تكنولوجيا جديدا يختلف عن العصر التكنولوجي الغابر، وأصبحت ثورة المعلومات والإعلام الرقمي سيد الموقف، وحادثة مثل ووتر جيت لن تتكرر في سيناريو الصحافة التقليدية، لأن بيئة الإعلام في العالم كله تغيرت ولن تترك صحيفة واحدة تقوم بمهمة إدارة حدث بحجم أحداث ووتر جيت، لأن الإعلام الرقمي الجديد هو صناعة كل الناس، وليس صناعة صحيفة واحدة. الكل الآن يشارك ويتفاعل في صناعة القصص والأخبار، بل حتى الصور الإعلامية لم تعد صورا يقوم بها فرد أو أفراد بعينهم، وإنما هي صور ينفذها كل الناس وفي كل مكان من العالم.
يبدو الآن أن رجل الأعمال "الكبير!" أخطأ في قرار شراء صحيفة الـ"واشنطن بوست" المترهلة، ويبدو كذلك أن الأزمة المالية التي تتعرض لها الصحيفة في هذه الأيام أكثر حدة وأكثر شدة من الأزمة التي تعرضت لها الصحيفة في السابق.
وليس أمام جيف بيزوس إلا أن يعض أصابع الندم على شراء صحيفة تترهل!