&يوسف الديني

&ليس للكردي إلا الريح تسكنه ويسكنها؛
لينجو من صفات الأرض والأشياء

هذه النبوءة الشعرية لمحمود درويش، التي أهداها إلى الروائي الكردي سليم بركات، تختزل الفوضى الهائلة التي يعيشها الأكراد منذ إعلان الرئيس ترمب «التخلي» عن مسؤولية أميركا عن الملف السوري، في سياق أكبر خروج من المنطقة المؤرقة، على خلفية الإخفاقات المتعددة في أفغانستان والعراق وسوريا، وما آلت إليه الأوضاع بعد عقود من الخسائر الاقتصادية والعسكرية؛ وتلك قصة أخرى في الخروج من عقيدة كارتر حول الشرق الأوسط.
ما يحدث اليوم هو أن سوريا منذ خروجها من ثنائية الثوار - النظام، باتت مسرحاً للقوى الدولية على اختلاف مشروعاتها للهيمنة، بوصفها مختبراً حربياً (Military laboratory) يمكن من خلاله إعادة موضعة سياساتها الخارجية، وتفاوضها مع القوى الإقليمية والدولية، وهذا هو الهدف الأساسي لما سماه الرئيس إردوغان، في توصيف لا يخلو من لا مبالاة، «نبع السلام»، حيث يريد إعادة ترسيم دور ومشروع تركيا في الهيمنة، بجانب المشاريع الموازية، وعلى رأسها مشروع ملالي طهران، من خلال منح السلام للدول الغربية التي تعاني، كما هو الحال مع تركيا، من مأزق ملف النازحين والمهاجرين الذي بات أحد أكبر دوافع الانقسام حول الاجتياح العسكري التركي من قبل الدول الكبرى التي، حتى مع ارتفاع لهجة التنديد والتجريم، تمارس تلك الازدواجية بين التنصل من تبعات مسؤوليتها الأخلاقية والرغبة في تحريك ملف النزوح، وانتظار أي مشروع لهجرة عكسية باتجاه سوريا، ولو كان ذلك المشروع ضد الجغرافيا والتاريخ. يحدث كل هذا في غفلة عن تبعات الهيمنة والمشروع الإردوغاني في المنطقة، التي لا تقف عند شمال سوريا، أو التخلص من الأكراد على طريقة التطهير العرقي، بل إعادة بناء منطقة عازلة مستدامة لحشر السوريين في تركيا، الذين هم في معظمهم موالون مؤيدون لإردوغان ومشروع بعث الإسلام السياسي، وهو المشروع الذي تتولى قناة «الجزيرة» التي تقود زمام السياسة الخارجية لقطر ترويج البروباغندا الإعلامية له، وهو ما يفسر تأييدها للاجتياح التركي، والدفاع المستميت عنه، والتخلي عن ملف نصرة الشعب السوري ومظلوميته الذي كان شعاراً مرحلياً لا أكثر.
في الصورة المكبرة للاجتياح التركي، لا تحضر الجغرافيا كما التاريخ كمنطقة للحرث العسكري فحسب، بل ثمة دوافع اقتصادية أخرى، يختزلها الشعور بالقلق تجاه مستقبل الاقتصاد التركي، في ظل شح الغاز والفشل في التوصل إلى تحسين للعلاقات مع مصر واليونان وقبرص، تلك الدول التي لا تزال سياسة إردوغان مع حلف الأزمات وإعلامه تواصل التشغيب عليها، إما أصالة أو بالتبعية، كما رأينا في استدعاء إردوغان لمقارنة ما يحدث بالملف اليمني، رغم الفوارق الضخمة حول المشروعية السياسية القائمة على إعادة الشرعية اليمنية، وكبح جماح تغول ميليشيا الحوثي، الامتداد الإيراني في اليمن، في تجريف هوية اليمن. ومع ذلك، قطعت السعودية على المزايدين في الملف اليمني، بتأكيدها على يمن واحد لا يستبعد فيه أي طرف سياسي، وأن الحوثيين مشمولون في ذلك التأكيد على لسان ولي العهد في مقابلته الأخيرة، متى ما تحولوا من ميليشيا مقوضة للدولة إلى مكون سياسي قابل للتفاوض، دون شروط أو إملاءات طهران.

الخذلان الأميركي للأكراد في سوريا لم يكن مفاجأة في دافعه الأساسي، فكل المؤشرات أكدت تحول أساسي في استراتيجية السياسة الأميركية الخارجية منذ الدعوة إلى مفاوضات مع «طالبان» بأفغانستان، وإطلاق اليد لروسيا وإيران في دخول معمل العسكرة السوري، في ظل عدم وجود أي تهديدات لأمن إسرائيل، وهو ما انعكس أيضاً في حالة الارتباك بشأن التعامل مع طهران بعد القطيعة مع إرث أوباما الكارثي والاتفاق النووي، وهو الخذلان ذاته في اتخاذ مواقف عملية، والضغط على تركيا من قبل الدول الأوروبية المنقسمة في توصيف ما يحدث، أو الاكتفاء بالإدانة الموجهة للقوى الداخلية المناهضة للحرب. لكن من وراء تلك الإدانة الدبلوماسية، يطل ملف النازحين برأسه كل مرة، كواحد من أهم التحديات التي تعيشها القارة العجوز، فيما يخص أمنها الداخلي والتحولات الديموغرافية المرتقبة، حتى مع النجاح في السيطرة على الحالة الأمنية، والتعامل مع خطر الإرهاب، حيث سيظل التحدي الاقتصادي وسياسة الإدماج للقادمين الجدد موضع شك، في ظل الإخفاق في تحسين الأوضاع المعيشية، والفشل في إدماج المهاجرين من الأجيال السابقة التي تعيش عزلة داخلية، وصعوداً واستيقاظاً للهويات الأصلية، بفضل العولمة والثورة التقنية.

ملالي طهران بدورهم يعيشون حالة الارتباك حول التحركات التركية، إذ دعا الرئيس الإيراني حسن روحاني، في جلسة لمجلس الوزراء مؤخراً، تركيا إلى إعادة النظر في قرارها بشأن سوريا، قائلاً إن المنطقة تحتاج إلى الهدوء، بينما شنت وسائل الإعلام الإيرانية هجوماً كاسحاً على إردوغان، عادة أنه يقوم بسياسة ترحيل أزماته الداخلية، وأن «نبع السلام» لن يكون إلا حفرة من اللهب لتصدير الأزمات والإرهاب في المنطقة، وإلى آماد طويلة، لا سيما مع احتمال توسع استراتيجية العسكرة التركية لتتجاوز أهدافها المعلنة.
وفي 23 يناير (كانون الثاني) من هذا العام، أقر مجلس النواب الأميركي مشروع «قانون قيصر» الذي يقضي بفرض عقوبات أميركية على نظام الأسد وداعميه، بموافقة 55 نائباً ومعارضة 43 آخرين، وامتناع البقية عن التصويت، وينتظر هذا القانون موافقة مجلس الشيوخ الأميركي، كي يصبح سارياً ملزِماً للرئيس دونالد ترمب. وبغض النظر عن يوتوبيا قانون قيصر الذي لا يعدو كونه منشوراً أخلاقياً لشخصيات سياسية أميركية تبدو بعيدة عن الواقع السوري، وأتون الحرب المتجددة بشكل يومي، فإن انسحاب ترمب المثير جعله يدير ظهره ليس لحلفائه الأكراد الذين أطاحوا بدولة الخلافة الداعشية فحسب، بل لكل السوريين الأبرياء العزل الذين باتوا في مرمى نيران دول كثيرة من كل الجهات، فيما يشبه مسلسلاً خيالياً!