& إميل أمين

&

يوماً تلو الآخر يثبت للعالم أن المملكة العربية السعودية مقبلة وبخطوات واثقة على أن تضحَى وجهة سياحة عالمية، ما يليق بتاريخها القديم وحاضرها الجديد، وما يتصل بجغرافيتها من جهة وبديموغرافيتها من ناحية ثانية.
الحديث عن المملكة وعلاقتها بالسياحة الزمانية والمكانية موصول بالحضارة الإنسانية في تلك البقعة المكانية؛ ذلك أنها وعبر أكثر من ألفي عام ازدهرت فيها حضارات غطت شتى مناحي الحياة، تجارة وزراعة، بناءً وإعماراً، كتابة وقراءة، فلسفة واجتماعاً، تنافحاً وتلاقحاً مع حضارات وآراء، أدياناً ومذاهب.
اهتم المستشرقون والرحالة الأجانب بأرض الجزيرة العربية بأكثر مما تنادى للمشهد العرب أنفسهم، وقد أشار جلهم من أمثال غوستاف لوبون وإرنست رينان، إلى أنه في تلك البقعة الجغرافية نشأت وارتقت حضارات كبيرة قامت على أعمدة إنسانية تقدمية خلاقة، وشعوب مبدعة تقاطع إنتاجها الإنساني مع جيرانهم مناطقياً، فأضحت أرض المملكة التاريخية مهداً لشعراء وكتاب، وموطناً لفلاسفة ومفكرين، ومبتكري أبجدية وترقيم، وهناك سنّ أول قانون وضعه الإنسان، وقد ظلت رمالها وجبالها، خيامها وقدورها، عاشقوها ومحبوها مصادر إلهام للشعراء الأقدمين.
في هذا الإطار الخلاق والإبداعي يضحى من الطبيعي أن تسعى المملكة إلى إزاحة ما علق بتاريخها التليد من نسيان، والعمل على كشف أوجهها المتعددة، ومنها الوجه السياحي، ذاك الذي توليه «رؤية 2030» قيمة كبرى ومكانة مهمة.
الحديث عن المملكة وتوجهها نحو عالم السياحة أمر بديهي لدولة تنعم بالشمس المشرقة الدافئة طوال أيام العام، وشواطئ خلابة، ومواقع تاريخية قديمة، ومتنزهات وملاهٍ متطورة، وفنادق فارهة، فيها حظوظ من المغامرة، وأكثر منها من فرص الاسترخاء، وبها هدوء الصحراء وسحرها.

للسياحة السعودية وجهان ينبغي الحديث عنهما، الأول يؤشر إلى فهم عميق لأبعاد النهضة السعودية الآنية؛ ذلك أن الاهتمام بهذا القطاع الحيوي في داخل المملكة أمر يفوق مردوده العوائد المالية على أهميتها؛ إذ إنه ينهي مرحلة زمنية بعينها اعتبر فيها بعض المغالين في تشددهم، وربما مقتهم للعرب أن أبناء عدنان وقحطان منبتي الصلة بسياقات ومساقات الحضارة الإنسانية.
تفتح السياحة السعودية الأبواب واسعة أمام العالم ليرى جذور حضارة عرفت معنى ومبنى الانثقاف عبر أجيال طوال، وما رحلة الشتاء والصيف إلا ضرب من ضروب العولمة المبكرة، والتي خلقت نقاط تماس حضاري على طول المسافة من شبه الجزيرة، وصولاً إلى بلاد الشام؛ ما يعني أن هناك ثروة قيمية وأخلاقية، معرفية وأدبية، سوف تضحى متاحة للقاصي والداني من عموم المعمورة للاطلاع عليها، وفي هذا فوز عظيم يعد من قبيل رأس المال الأدبي والمعرفي، والذي باتت دول العالم توليه اهتماماً فائقاً في العقدين الأخيرين.
أما الوجه الآخر من أوجه السياحة في السعودية فهو التجرؤ الواقعي والمقدام على الأمل في أن يضحى الإنسان هو جوهر عملية التنمية في المملكة، وأن يضحى اقتصاد الإبداع والابتكار والأفكار البعيدة عن مفاهيم الريع النفطي، ذاك القادر على استجلاب مائة مليون سائح

سنوياً إلى المملكة، أي ضعف العدد الذي يزور إيطاليا كل عام؛ ما ينعكس بالقطع على موازنة الدولة، وحالة الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل، وتحقيق أرباح بمليارات الدولارات.
في هذا الإطار يأتي إعلان الأمير محمد بن سلمان عن تدشين مشروع نيوم، الذي يمكن وصفه بأنه «ميغا بروجيكت»، أي أنه مشروع عملاق وبشراكة مع بعض الدول العربية الشقيقة المشاطئة على البحر الأحمر، لينقل الرؤى السياحية في الشرق الأوسط إلى مستوى آخر من سحر الطبيعة الخلاق وغير المسبوق، من خلال أكثر المواقع الطبيعية جمالاً وتنوعاً في العالم، حيث تتيح هذه الواجهة الجديدة فرصة استكشاف طبيعة المملكة من جزر وسواحل وبراكين، إضافة إلى المحميات الطبيعية والآثار القديمة.
غني عن القول أيضاً، أن التنقيب في الداخل السعودي يفتح آفاقاً جديدة للعالم ليتعرف على الإرث الإنساني الذي تقر به منظمة اليونيسكو والقائم على أراضي المملكة، حيث مدائن صالح، وحي الطريف بالدرعية، وجدة التاريخية، والرسوم الصخرية في حائل، وهي في واقع الحال ليست مجرد حجارة وصخور صماء، بل تاريخ بشري منقوش على جغرافية الأمكنة، تاريخ يخبر عن الأقدمين والأولين، ويفتح الباب لقراءة وجه حضارة سمحة آخذة في استعادة وجهها البراق مرة جديدة بعد سنوات الانسداد التاريخي التي آن لها أن تنقشع.
السياحة في المملكة... زمن اكتشاف ثروة ثقافية وتاريخية كبرى.