أحاول في هذا المقال تقديم نظرة اقتصادية محايدة لأزمة لبنان الحالية التي هي اقتصادية في الأساس لفهم سبب المشكلة، الكل يعرف أن الشرارة التي أشعلت الأزمة هي في الأساس ضريبة الاتصالات الرقمية التي فرضت على المواطنين والتي يطلق عليها الناس هناك "ضريبة الواتس آب". هذه الضريبة في الحقيقة القشة التي قصمت ظهر البعير، فالأزمة الاقتصادية كانت واضحة وضوح الشمس وانفجارها كان مسألة وقت.

منذ سنوات كان واضحاً العجز في الموازنة والذي كان يعوض عن طريق الاقتراض حيث بلغ العجز 11 % من الناتج المحلي العام الماضي، طبعاً البعض يرى أن الدين العام هو سبب العجز والمشكلات حيث بلغت فوائد الدين العام 46 % من مجموع الإنفاق الحكومي اللبناني عام 2018، وإن حجم فوائد الدين من الانفاق تضغط على دخل الأسر اللبنانية من رواتب وتأمينات اجتماعية ولكن الحقيقة هذا الاعتقاد غير صحيح.

الحقيقة أن حجم اللبنانين الذين يعملون في الحكومة من حجم القوة العاملة لا يصل إلى 20 % ومجموع رواتبهم لا يتجاوز 10 % من الناتج المحلي وهي أرقام تعادل متوسط الدول المتقدمة، لكن من جهة تكشف الأرقام اعتماد اقتصاد لبنان بشكل كبير على القطاع الخاص في خلق فرص عمل وتوفير نقد أجنبي خصوصاً في ظل نظام نقدي يعتمد على تثبيت سعر الصرف مع الدولار في ظل عجز للحساب الجاري بلغ بنسبة 25.6 % من الناتج المحلي وأغلبه ناتج من العجز التجاري (تبلغ الواردات اللبنانية خمسة أضعاف الصادرات) لذلك يضطر لبنان للجوء لمجموعة من الحلول لتعويض العجز إما عن طريق جذب الاستثمارات الأجنبية والحوالات الخارجية، أو الحل غير المستمر وهو الاستدانة حيث بلغ الدين الحكومي 155 % من الناتج المحلي وهو نسبة تعد جداً مرتفعة (80 % هو المعدل المقبول لدول النامية).

في ظل تلك التركيبة الاقتصادية كان يفترض أن تقدم حكومة لبنان الكثير من المبادرات لتحسين بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، للأسف لم يحدث وظل متوسط النمو الحقيقي لاقتصاد اللبناني في الخمس سنوات الأخيرة أقل من 1 % (العام الماضي 0.2 %) وأقل من المتوسط التاريخي لنمو الاقتصادي، لذلك اضطر بنك لبنان المركزي لرفع نسبة الفائدة لتأمين احتياطيات دولارية حيث بدأت ترتفع نسب الفائدة الدولارية في أشهر من 7 % إلى 10 %، ارتفاع الفائدة في ظل بيئة اقتصادية ساكنة ونمو اقتصادي بسيط خطير لأنه يضع ضغطاً على المصارف، حيث ترتفع تكلفة الوداع وينخفض الطلب على الاقتراض -لأن العائد على الاستثمار لا يتجاوز تكلفة الدين بل ترتفع نسبة التعثرات، الآن العائد على أصول المصارف اللبنانية هزيل أقل من 1 % والقروض غير العاملة بلغت 13 %.

هذه التغيرات الأخيرة رفعت درجة الشك بين المستثمرين على قدرة البنك المركزي اللبناني في ظل الفوائد العالية في اقتصاد ساكن أن يضبط سعر الصرف الذي يعد أكبر خطر لأي مستثمر، والصعوبة هو أن دخل الدولة اللبنانية يعتمد بنسبة 73 % على الضرائب، فكلما انحسرت الاستثمارات الخارجية والقطاع الخاص زاد الضغط لرفع الضرائب على دخل الأفراد واستهلاكهم، كل الحلول المطروحة لا تبدد مخاوف المستثمرين، الحل في مشروع تنمية يشجع القطاع الخاص والمستثمرين من الخارج ولكن هذا لا يحدث.

سؤالي للإخوة اللبنانيين: ما القوة التي تعيق البلاد عن سياسة تنموية وتعطل مسيرتها وتسيرها حسب مصالحها؟