&علي محمد فخرو

ما العامل المشترك في ما يحدث من حراكات جماهيرية، بقيادة وتضحيات شبابية، على الأخص في مدن العراق ولبنان والجزائر، وما حدث في السودان، وفي هذه اللحظة التي تعيشها الأمة العربية؟
ما يحدث، هو تتمة لتغيُّر ذهني وشعوري نفسي بدأ منذ عشر سنوات، عندما كسر الإنسان العربي حاجزي الخوف من السلطة الاستبدادية واللامبالاة، تجاه ممارساتها الفاسدة الأنانية الاحتكارية في الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية العربية.
الآن تضيف تلك الحشود الجماهيرية انتقالاً ذهنياً آخر، بالغ الأهمية والعمق، يتمثل في الرفض التام من قبل المتظاهر لكل أنواع الوسائل والألاعيب والأكاذيب التي كانت تستعملها مختلف السلطات المجتمعية من أجل تدجينه الذهني، والنفسي، والسلوكي، ليقبل احتكارها للقوة السياسية، والقوة الاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي ليقبل، باقتناع أعمى وتضليل تجهيلي، احتكار رجالات تلك السلطات لكل الامتيازات المادية والمعنوية، ولكل مصادر القوة في المجتمع، بينما يقبل هو، المواطن المدجّن، بالفتات من ثروات المجتمع بكل أشكالها، وبندرة الفرص الحياتية من أمامه.

هاته الكتل البشرية، كأفراد وكجماعات، إذاً قد بدأت تعي وتشعر بوجع تلك الأصفاد التي تكبلّها، أصفاد الوسائل الإقناعية القمعية المخفية وراء ألف قناع، وقناع.
دلائل الانتقال الذهني والشعوري الجديد يلاحظها الإنسان في الشعارات التي ترفع، وفي كتابات التواصل الإاجتماعي، وفي تصريحات البعض لوسائل الإعلام المختلفة.
فشعار الرفض التام للمحاصصات الطائفية في السياسة هو إيذان بالتمرد على استعمال الدين كوسيلة انتهازية للهيمنة على السياسة، وهو رفض لعلاقة القوة الخفيّة الموجّهة بين المواطن وبين هذا الفقيه، أو ذاك القسّيس. فالعمامة، أو القلنسوة، لن تقبل أن تكون رمزاً ومدخلاً

لعلاقة قوة من قبل لابسها أمام ضعف واستسلام من قبل المواطن المتلقي لتوجيهات أصحابها.
وشعار رفض المحاصصات القبلية والعشائرية والعائلية والإثنية، التي تحكم الكثير من الحياة السياسية العربية، هو إيذان برفض العلاقات الأبوية البطركيّة الاستبدادية في كل مؤسسات الدولة، والمجتمع، ابتداء بالعائلة، حيث سيطرة الأب، وانتهاء بالدولة، حيث الاحتكار

المحكم لمصادر القوة، والسلطة، والامتيازات، لمصلحة طبقة، أو نخبة، أو أقلية، وعلى حساب ومصالح وحقوق مؤسسات وأفراد المجتمع المدني.
وانتقال الجماهير إلى الاستعمال المكثّف لوسائل ومناقشات التواصل الاجتماعي هو الآخر محاولة للفكاك من هيمنة علاقة القوة مع الإعلام العربي. فوسائل الإعلام الرسمية على الأخص، والتي كان لها تأثيرها الكبير في الإقناع والتوجيه والحفاظ على اللامبالاة، ستجد نفسها معزولة في ساحات الصّخب التي نشاهدها أمامنا.

وحتى المؤسسات المدرسية والجامعية ستجد أن قبضتها السابقة تضعف شيئاً فشيئاً، إن لم تجر تغييرات كبرى في أسلوب ومحتوى خطابها التعليمي والتثقيفي. فعلاقة القوة فيما بينها وبين طلابها في ضبط الفكر والسلوك لن تصمد أمام الوعي التمردي الجديد.
وإذا كانت المؤسسة العسكرية والأمنية ستظل تعتقد أن الأوسمة على صدور قادتها ستحميها من التمرّد على علاقة القوة فيما بينها وبين مواطنيها، فإنها واهمة، وترتكب خطأ كبيراً. ولن تكون هذه المؤسسة العريقة التي وقفت على أرض صلبة عبر التاريخ الطويل، محصّنة أمام هذا الوعي الجديد لكسر كل علاقات القوة الظاهرة والمخفيّة.

نحن، إذاً، أمام إمكانية ضعف وتراجع العوامل والعلاقات التقليدية التي شكلت في الماضي، وعبر قرون طويلة، الأسس الرئيسية التي قامت عليها المجتمعات والدول العربية، وعلى الأخص علاقات استغلالية المناصب ومواقع القوة.
يتضح أمامنا تدريجياً أن الحشود الجماهيرية الصاخبة، لكن المنضبطة والمسالمة إلى حد كبير، قد حسمت أمرها بشأن تطوير الحاضر البائس إلى مستقبل أفضل، خصوصاً بعد قرارها بالتمرد على علاقات القوة في مجتمعاتها. ما يبقى الآن هو أن تحسم مختلف سلطات الدولة العربية أمرها لتساعد على الانتقال إلى ذلك المستقبل بأقل الآلام والتضحيات.

&