&سليمان جودة

&

نظرة على المنطقة العربية من حولنا تقول إن المسافة الزمنية الممتدة من عام 2011، الذي اشتهر بأنه عام ما يُسمى «الربيع العربي»، إلى هذا العام الذي شهد ولا يزال يشهد ما نراه ونتابعه، هي مسافة من الزمن عاشت وتعايش أشياء، تدعونا إلى أن تكون محل نظر يستهدف الفهم والاستيعاب!

أول هذه الأشياء أن أحداث ذلك العام التي مضت عليها ثماني سنوات تقريباً، قد انطلقت من تونس في غرب العالم العربي، ثم ما لبثت حتى تحركت إلى الوسط منه؛ حيث مصر وليبيا، وأخيراً زحفت نحو اليمن، ومن بعده وصلت إلى سوريا!
وكان اللافت حقاً أن الحكومات في عواصم أربع دول منها، هي تونس العاصمة، والقاهرة، وطرابلس الغرب، وصنعاء، قد ذهبت وتخلت عن الحكم والسلطة، وأن عاصمة واحدة من بين عواصم الدول الخمس، هي دمشق، لم تذهب السلطة فيها عن الحكم ولا تخلت عن مقاعدها، ولكن موضوع هذه العاصمة يبقى قصة أخرى طويلة، ليس هذا هو مجال التعرض لها!
ثم كان اللافت بالدرجة نفسها، أن أنظمة الحكم في الدول الخمس كانت كلها أنظمة حكم جمهورية، ولم يكن بينها نظام حكم ملكي واحد. وهذه مسألة في حاجة إلى تفسير على المدى الطويل. إنني أستدرك هنا لأقول إن الأحداث نفسها التي شهدتها العواصم الجمهورية الخمس، كانت قد راحت تطل برأسها في العاصمة البحرينية مرة، وفي العاصمة المغربية مرة ثانية، ولكن لجنة تقصي الحقائق التي دعا إلى تشكيلها العاهل البحريني الملك حمد، كانت قادرة على احتواء الموقف إلى حد بعيد، وكذلك مشروع دستور 2011 الذي دعا إليه العاهل المغربي الملك محمد السادس في الرباط، فكلاهما أحس بأن الأجواء التي تتحرك في المنطقة ليست هي الأجواء، وكلاهما تحرك عملياً على الأرض بما يمنع الذهاب إلى الفوضى!
وأما ثاني الأشياء، فهو أن الزمان ما كاد يدور دورته على المنطقة، حتى كان هذا العام الذي نعيشه في هذه اللحظة قد جاء، وما كاد العام يبدأ ويمضي إلى الربع الثاني منه، حتى كان نظامان جمهوريان في الجزائر وفي السودان، على موعد مع ما شهدته جمهوريات الربيع قبل ثمانية أعوام، ثم ما كاد يأتي الربع الثالث فيه، حتى اكتشف نظامان جمهوريان آخران في لبنان وفي العراق، أنهما على موعد مع الشيء ذاته، وأنهما ليسا بعيدين عما جرى قبل أسابيع في الجزائر العاصمة وفي الخرطوم!
وكان اللافت للمرة الثالثة أن نظاماً واحداً من بين أنظمة الحكم الأربعة، لم تشأ حكومته في بغداد أن تذهب ولا أن تتخلى عن السلطة. تماماً بما يشبه الحالة السورية في مجموعة الدول الخمس الأولى، بينما ذهبت ثلاث حكومات في الجزائر والسودان ولبنان، ولم تستطع الاحتفاظ بمقاعدها!

فكأننا أمام خمس دول إلا دولة في عام 2011، وكأننا أمام أربع دول إلا دولة في هذا العام، وكأننا أمام خريطة سياسية نادرة تشكلت حصرياً من أنظمة حكم جمهورية لم تستوعب الدرس، ولم تقرأ معنى ما جرى على مرمى حجر منها في عام ما لا يزال يتسمى «الربيع»!
وأما ثالث الأشياء، فهو موقف الغرب، وفي المقدمة منه الولايات المتحدة، مما جرى هناك، إذا أردنا مقارنته بما يجري هنا!
إن مايك بومبيو، وزير خارجية الولايات المتحدة، قال في بيان صدر عن وزارته أول هذا الأسبوع، إن على الحكومة العراقية أن تستمع إلى المطالب المشروعة للشعب الذي خرج إلى الشارع لتوصيل صوته، وإن بلاده تراقب الوضع عن كثب، وإنها تدعو جميع الأطراف إلى نبذ العنف، وإنها ترحب بأي جهود جادة تبذلها الحكومة العراقية لمعالجة المشكلات المستمرة في المجتمع العراقي!
هذا موقف مرن للغاية من جانب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تجاه الأحداث التي يمر بها العراق، ويمر بها لبنان، ومرت بها الجزائر والسودان قبل أسابيع، وهو موقف ليس من الممكن مقارنته بموقف مغاير تماماً، كانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد اتخذته، تجاه الأحداث المشابهة التي مرت بها الجمهوريات الخمس قبل ثمانية أعوام من الآن!
فلا نزال نذكر كيف كان أوباما يستعجل تخلي الرئيس حسني مبارك عن الحكم، ويقول إن عليه أن يتخلى الآن وفوراً وليس غداً، وكان يكررها ويضيف أنه يقصد الآن بمعنى الآن!
ولم يكن اهتمام الرئيس الأميركي السابق بخروج مبارك من الحكم، راجعاً إلى وقوفه إلى جوار مطالب المصريين وقتها، ولكنه كان راجعاً إلى رغبته ورغبة إدارته في تمكين الإسلاميين من الحكم في المنطقة كلها، وليس في مصر وحدها، فهذا ما تبين للجميع لاحقاً، ولكنه موضوع آخر على كل حال!

وهذا هو السبب الذي جعل إدارة أوباما تتحمس لمساندة «الربيع» في ذلك العام، بمثل ما إن عكسه هو الذي جعل إدارة ترمب هذه الأيام ليست بحماس الإدارة السابقة عليها، تجاه ما يجري في لبنان والعراق، وإزاء ما جرى في الجزائر وفي السودان!
فالجمهوريون الذين يحكم ترمب باسمهم، لا يملكون مشروعاً لتمكين الإسلاميين، كما كان الحال مع الديمقراطيين وقت أوباما؛ بل إن الجمهوريين يقفون موقفاً مضاداً في مواجهة المشروع نفسه، وفي مواجهة تطرفه، وفي مواجهة فهمه الخاطئ للدين، أو هكذا يبدو لنا على الأقل!

فماذا يتبقى؟! يتبقى أن تستوعب الحكومة العراقية في بغداد، وحكومة تصريف الأعمال في بيروت، أن درس المغرب والبحرين في عام «الربيع» لا يجب نسيانه، ولا القفز فوقه، ولا تجاهله؛ لأن الرباط وقتها أسست لدستور جديد راح يعطي لرئيس الحكومة صلاحيات كانت ضمن صلاحيات الملك، ولأن المنامة في العام نفسه قد دعت قطب القانون الجنائي الدولي، الدكتور شريف بسيوني، ليرأس لجنة مستقلة راحت تتقصى حقائق ما شاع عن تجاوزات من الشرطة في حق المتظاهرين، وتعلنها على المواطنين، وقد كان ذلك مما أراح نفوس الناس في الشارع في البلدين، وكان أيضاً مما أرسل الهدوء إلى شارع كان الغضب يتملكه!
درس الرباط والمنامة لم يتقادم به الزمان، ولا يزال صالحاً وموحياً، كما أنه لا يزال قادراً على أن يسعف الحكومات التي تفتش عن سبيل، لقطع الطريق على الذين يوظفون الأحداث لغير صالح الأوطان!