علي القحيص&


أصدر عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، في عام 1965، دراسة حول طبيعة المجتمع العراقي، وذكر مزاجيته وتقلباته وطبيعة أمزجته المتكررة، وأوضح الفوارق الطبقية، وبين أن المجتمع العراقي يعتمد على النزوات والتبعية المذهبية والعشائرية، وأنه مجتمع «موتور ومأزوم» ويدور في بوتقة المصالح الآنية، ودائماً ما يبحث عن من يقوده ولا يبادر بنفسه لقيادة الشارع وانتزاع حقوقه من الآخرين، وأنه مجتمع متقلب المزاج، اتكالي انتهازي يتميز بعدم الثبات على الموقف الموحد وعدم اقتناعه واتحاده في هدف واحد لخدمة المصلحة العامة.. وأنه شجاع أمام الجبان، جبان أمام الشجاع.

لكن نظرية الوردي هذه فيها إجحاف وظلم للمجتمع العراقي، لذلك فهي اليوم تعد نظرية قديمة بالية لم تعد ذات أهمية علمية، إذ تبخرت وهُزمت بعد أن نسفتها وأسقطتها همة سواعد الشباب العراقي مؤخراً، في ساحات الاعتصامات، وبصدورهم العارية أما الرصاص الحي في ساحات التحرير وميادين التظاهر.. حيث استنهضوا الهمم وشحذوا عوامل شجاعة الإنسان العراقي والروح «الكلكامشية» العظيمة لديه، بعد هذا الإنجاز الكبير والمدوي الذي أدهش العالم، وفاجأ الجميع. فقد صنع الشباب العراقي الوطني الحر ميلاداً جديداً للعراق العربي الأشم وأعاده إلى سابق عهده البطولي الذي عرف به عبر العصور الماضية، حيث كان للعراق صولات وجولات في ميادين الكرامة والشرف في المعارك العربية المصيرية، قبل أن تحتله وتستولي عليه الميليشيات الطائفية المسلحة وتثنيه عن دوره الريادي المؤثر والمعروف في واجبه الوطني والقومي.

واليوم ثمة مؤشرات على منعطف جديد يؤسس لمرحلة عراقية جديدة يقودها الشباب العراقي الطامح للتغلب على الطائفية والمذهبية والمناطقية والعرقية، طالباً تنظيف بلاده من التدخلات الأجنبية، ليبقى بلدهم حراً أبياً صعب المنال.
لقد اتحد الشباب العراقي من كل القوميات والطوائف، ليظهر صوته المنحاز من أجل الوطنية وطرد الدخلاء خارج وطنهم الجريح، وما نشهده اليوم من حشد جماهيري شبابي أظهر الدخلاء واللصوص والعملاء بشكل واضح ومفضوح.
وتعد هذه المظاهرات السلمية الشبابية العارمة ثورة ثقافية، لا تخضع لأيديولوجيا مسيسة ولا لمرجعية طائفية مجتمعية، وهي ثورة إرادة ضد الفساد والمحاصصة الطائفية. إنها انتفاضة محلية شبابية يتوقع لها أن تغير مجرى التاريخ، وقد بدأت تدهش الرأي العام بقوتها ونظافتها وولائها المطلق للوطن والأرض والإنسان.

حتى الإعلام في بداية الأمر لم يتعاط ولم يتفاعل مع احتجاجات الشباب العراقي، معتبراً إياها مجرد تنفيس عن اختناقات أو ضغوط أو إرهاصات معينة أو مطالبات طلابية شبابية مترفة من جانب شباب غير مهيئين ولا قادرين على إسقاط حكومة طائفية مدعومة من الخارج، وإن اليد الواحدة لا تصفق، والعين لا تواجه المخرز.. لكنّ الشباب العراقيين خرجوا وأنشدوا في وجوه المتشائمين والمثبطين!

&