محمد حسن مفتي

لطالما تساءلت عن سر توسع وانتشار داعش، وكثيراً ما انتابتني الحيرة والاستغراب من تمدده -ولا سيما خلال فترة زمنية محددة- وقدرته على التغلغل عبر الدول والبحار، فقد بدأ التنظيم متبنياً شعار إعادة إحياء الخلافة وبناء الدولة الإسلامية وإعادتها للحياة من وسط ركام التاريخ انطلاقاً من العراق، ثم تمدد على نحو بدا طبيعياً بعض الشيء في سوريا، بالتزامن مع ضعف نفوذ الأسد واندلاع الحرب الأهلية هناك، غير أن التمدد والانتشار بدأ يتخذ منحنى عشوائياً، فظهرت أذرع وفروع للتنظيم في الكثير من دول العالم ومنطقة الشرق الأوسط.

استغرقت كثيراً في التفكير وأنا أتابع الكثير من الجماعات الإرهابية الصغرى وهي تتباهى بمبايعة تنظيم داعش معلنة كامل ولائها له، وفكرت في الأسباب التي قد تدفع تلك التنظيمات للزهو بانضمامها لهذا التنظيم الدموي بالغ القسوة والشراسة، هل يا ترى تجتذبهم تلك الدموية؟ أم أنهم يروجون لأفكار ومبادئ أكثر تماسكاً وإقناعاً من غيرهم؟ أم يا ترى هناك عائد مادي ما يفيدهم عند الانضمام لتنظيم كبير تمكن في بعض الفترات من فرض وجوده على الساحة العالمية والإقليمية، بفضل دمويته غير المسبوقة التي لم تضاه من قبل، وبفضل نجاحاته الميدانية التي تمكن من خلالها من تأسيس عالم موازٍ من التطرف والإرهاب، خدمته وقتها الكثير من الظروف ولعبت لصالحه.

لاشك أن مقتل البغدادي مؤخراً -غير مأسوف عليه- أعاد لذهني جميع هذه التساؤلات، والتي وجدتُ لها مؤخراً إجابة كامنة في تحليل الأحداث التي عصفت بمنطقتنا خلال العقد الأخير تقريباً، فقد اكتسب تنظيم داعش قوة إضافية وزخماً على الساحتين السياسية والدينية بسبب قدرته على احتلال مساحات شاسعة من العراق وسوريا، مستغلاً تردي الأوضاع الأمنية وتفكك البنية السياسية فيهما، مما مكنه من التوسع والانتشار بحرية دون أن توجه له أي ضربات من حكومتي كلا البلدين المنشغلتين بظروفهما الداخلية غير المستقرة، وقد أغراه نجاحه في ضم بعض المناطق لأن يضم المزيد من الأراضي، وخاصة وأن بعضها احتوى على موارد غنية مما مكنه من تصور كونه بات دولة حديثة بالفعل، لها دستور وشعب وحكومة وموارد أيضاً!.

أغرى نجاح التنظيم الذي تمكن من شغل الرأي العام العالمي والاستحواذ على اهتمام كافة وسائل الإعلام الغربية، من خلال قيامه بمجموعة أحداث إرهابية يندى لها الجبين، من ذبح وحرق وسجن وتشريد، تمكن من أن يصبح قبلة يترجاها كل تنظيم إرهابي صغير لم يتمكن بعد من فرض وجوده على الساحة الخارجية، وقد رأى زعماء تلك التنظيمات المحدودة أن انضمامهم لداعش يعطيهم بعضاً من نفوذ وقوة داعش، ويجعلهم مرهوبي الجانب مطاعين مثل داعش، كما يمنحهم بعض المصداقية التي ينعم بها تنظيم داعش الأم بين مريديه ومؤيده، وبدلاً من أن يحفر في الصخر ليثبت وجوده من الصفر، يكفيه الانضمام تحت راية داعش ليكتسب المصداقية والموثوقية والقوة في آن واحد.

من ناحية أخرى أفاد ذلك الأمر تنظيم داعش نفسه الذي بات يتصور قدرته على حشد التنظيمات الصغيرة والاستحواذ عليها إن صح التعبير، ثم دمجهم جميعاً في بوتقة تنظيم واحد كبير هو داعش نفسه، وبلغ بالتنظيم حد الغرور أنه بات يستقطب أعضاء (برواتب عالية) من خارج مظلته الفكرية، للعمل كموظفين مؤهلين في دولته الوليدة التي غدا يتخيل أنها تقوى يوماً بعد يوم، وقد تصور قادة داعش أنهم دولة بالفعل لا ينقصها سوى صك عملة باسمها، وقد أصبح كل هذا الزخم والاحتشاد مصدر جذب وإشعاع للجماعات الإرهابية المتطرفة الصغيرة، التي باتت تشعر أنها بانضمامها لداعش فقد ولجت العالمية من أوسع أبوابها.

الغطاء الأيديولوجي والمادي إذن هما البناء الفوقي الذي استطاع اجتذاب التنظيمات الصغيرة لخندق داعش، وأعضاء هذه التنظيمات الصغيرة في واقع الأمر ليسوا شباباً غضاً مغررا بهم، بل هم أشخاص مهمشون خارجون عن القانون وغير قادرين على التكيف مع المجتمع، يجدون لذتهم في إخضاع غيرهم وقهره تحت عباءة الدين، والدين منهم بريء، وهم ليسوا أكثر من نفوس مريضة متسلطة غير قادرين على النجاح بمفردهم لأنهم ليسوا مؤهلين لتحقيق ذلك فعلياً، فلم يجدوا سوى طريق التطرف وفرض الرأي بالقوة والتمسح بالدين، وحتى لا يجرؤ أحد على انتقادهم فقد وجدوا متنفسهم في الأفكار المتطرفة التي ادعوا كذباً وتدليساً أنها مبادئ الدين الحقيقي.

هذه التنظيمات الفرعية في حقيقتها لم تكن قادرة على فرض وجودها في الدول التي نشأت فيها لأسباب عديدة، لعل أهمها مطاردتهم بيد من حديد من جانب السلطات الأمنية لوأد أفكارهم في مهدها، وهو الأمر الذي لم يعان منه داعش خلال فترات تمدده كما أسلفنا القول، طبعاً بخلاف جهود التوعية المبذولة للتحذير من خطورة أفكارهم، وهو ما أسهم في تحجيمهم وفي محدودية تأثيرهم، فلم يكن أمامهم ملجأ سوى الاستقواء بداعش والركون للعيش في ظله، والرضا بلعب دور الوكيل.

لقد أوهنت الضربات الأخيرة التي تم توجيهها لتنظيم داعش قواه وأضعفته كثيراً، الأمر الذي أضعف كثيراً وكلاءه هنا وهناك، غير أن الضربة القاضية له هي قتل زعيمه الروحي والقضاء على ما بقي فيه من روح هزيلة، ونحن على يقين من أن دحر التنظيم نفسه سيشكل ضربة قاصمة لجميع التنظيمات الإرهابية التابعة له، فبسقوط الأصيل يسقط الوكيل، كما أن تفكك التنظيم وانفراط عقده سيكون بمثابة رصاصة الرحمة على الأفكار الإرهابية التي تتغذى على وجوده، والتي إن لم نواجهها بغاية الصرامة ونضرب على أيدي أعضائها بيد من حديد ستعيد تشكيل نفسها من جديد في الخفاء، مكونة مجتمعاً مصغراً من داعش مرة أخرى، فلنكن على حذر من الخلايا النائمة من المهمشين المتسلطين الفاشلين ممن يترصدون الفرصة الأخرى تلو الأخرى ليصبحوا وكلاء لأي تنظيم جديد قادر على احتوائهم، أو على ضمهم داخل خندقه بعيداً عن أعين الدولة وعن نفوذ سلطتها الرسمية.

&