&بول شاؤول

ما نشهد اليوم من تظاهرات وحراكات في بعض الدول يعلن أول ما يعلن تأبيناً للأحزاب اليسارية واليمينية معاً، وحتى للإرث الثقافي الممتد لعشرات السنين. في لبنان والعراق بداية سقوط المذهبية التي كان يستخدمها الخارج لإرساء نفوذه في الداخل. كأنما بعد الطوفان، وليست بسفينة نوح واحدة وإنما بأساطيل أبحرت من تشيلي، الجزائر، لبنان، العراق وبوليفيا.
لا طبقية قاصمة ولا عائلية راعية ولا مناطقية مغلقة: كأنما كل الساحات مفتوحة على بعضها بعد سقوط التوتاليتارية والنيوليرالية والدكتاتوريات على خلافها. تبقى طبقة واحدة نفذ منها المحتجون هي الطبقات الوسطى التي أصيبت إصابات بالغة، وهي التي تضم المثقفين

والمعلمين والموظفين وأساتذة الجامعات. هذه الطبقة نزعت من فوقها «الطبقة العليا» الأوليغارشية اليمينية، ومن تحتها طبقة الأحزاب اليسارية بعناوينها وشعاراتها. خرجت تلك الجموع عارية، جديدة بلا أيديولوجيات ولا يوتوبيات ولا أفكار جاهزة. انه الحاضر الجريح المعذب المستوحد يخرج من قمقمه. فلتذهب تلك البنى الماضوية إلى الجحيم. تحرر من أعباء الأسلاف وانفتح على مستقبل عيني ملموس، محسوس ينفض بالشرايين الملتهبة بالعروق الشبابية النابضة.
فتشيلي التي كانت واحة الهدوء إزاء ما يحيط بها على خريطة أميركا اللاتينية غير المستقرة، اشتعلت مرة واحدة. بمظاهرة من مليون ونصف مليون بشرارة زيادة تعريفة بطاقة المترو، وأدت إلى سقوط عشرين قتيلاً حتى الآن، وإعلان حالة الطوارئ.
في بوليفيا حراك كبير انطلق فور إعلان فوز ايفو موراليس بالدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية بينما أسفر استفتاء أجري عام 2016 عن منعه من الترشح لدورة رابعة...
في لبنان مليون ونصف متظاهر (عدد السكان أربعة ملايين) بدوا كطوفان من البشر غمر كل المناطق اللبنانية واخترق للمرة الأولى منذ 150 عاماً كل الطوائف إثر شرارة فرض ضريبة على الواتس اب لتمتد بعدها وتشمل إدانة كل الطبقة الفاسدة التي أوصلت البلد إلى الإفلاس الاقتصادي والمالي.

وفي العراق انتفضت ملايين من الشعب في معركة استقلالية لاسترجاع سيادته المنتهكة كما لإنهاء الفساد المستشري وإزاحة الهيمنة الخارجية على مفاصل الدولة، كأنما كانت الطبقة الوسطى تموء والفقراء يئنون، لكن فجأة زمجر اليأس، فخرجت هذه الطبقة في تلك البلدان منادية بمطالب متعددة كالعدالة الاجتماعية وضد هيمنة الأنظمة الأوليغارشية وضد تفشي الفساد ورفض ترسخ الوصايات الأجنبية. فهي إذا متنوعة بطبيعتها وأصولها وأسبابها: النضال من أجل الديمقراطية وإدانة البنى المذهبية في المؤسسات اللبنانية، والمطالبة بإرساء مجتمع مدني.

وفي العراق امتزجت معركة الحرية والتحرر والسيادة بالقضايا الاجتماعية، ورفع التيشليون عنوان العدالة الاجتماعية. إنهم جيل الشباب الذين فاتتهم شعارات الأفكار والقضايا الكبرى الماضية بأحداثها وأحزابها ورموزها وشخصياتها. فجيل الطبقات الوسطى الذي وجد نفسه مكشوفاً وبلا حماية وبلا مستقبل وبلا ماضٍ، كأنما للمرة الأولى- وبرغم بعض أشكال الراديكالية الدينية والعنصرية والشعبوية- ينفرد بطاقاته الخاصة لتبدو كل الأحزاب الطائفية وما تبقى من الأحزاب العلمانية وراءه حطاماً يدوسها بأقدام عارية، بلا قفازات ولا أسلحة ولا مطايا. إنها الراديكالية الساطعة السلمية تنبذ التوتاليتارية والمنتظمات التاريخية الجامدة، بل إنها ما يمكن تسميته «المجتمعات السائلة» التي تبحث عن قضاياها وأفكارها في حاضرها الواقعي، لا الافتراضي الأيديولوجي أو الفكر التجريدي، والتي لا تتوقف عند صيغ بائدة كالبروليتاريا، بل تغمر كل ما يمسها في مجتمعاتها من شخصي يومي إلى استبدادي وقمعي، إلى بطالة وتربية وتعليم وفساد وانهيار القيم والاقتصاد.

&

&