&محمد كركوتي
"حلف الناتو في حالة موت سريري"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا

أحدث موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ضجة كبيرة في البلدان المنضوية تحت لواء هذا الحلف، بما فيها ألمانيا الأقرب سياسيا وجغرافيا واقتصاديا وتاريخيا لفرنسا. وموقف باريس التاريخي من هذا الحلف ليس "سمنا على عسل"، لكنه لم يصل إلى مرحلة وصفه بـ"الميت سريريا". ما يؤكد حجم الفجوة في مفهوم التحالف بين أغلب الدول الكبرى، والولايات المتحدة بإدارتها الراهنة. فهذه الأخيرة أعلنت بوضوح منذ وصولها إلى البيت الأبيض أنها "مظلومة" من ناحية حجم الإنفاق على "الناتو"، وأنها لا تستفيد بما يوازي حجم الإنفاق، وأنها (أي واشنطن) عليها إعادة النظر في كل السياسات الخارجية التي تتبعها، بما في ذلك مستقبل عضويتها حتى في منظمة التجارة العالمية.
مواقف الرئيس دونالد ترمب حيال مختلف القضايا تتسم بالصراحة والوضوح، وتبعد مسافات طويلة عن اللغة السياسية المتبعة حول العالم. وهذا الأسلوب "بصرف النظر عن ندرته" يشجع في الواقع على معالجة القضايا المطروحة بصورة شفافة، أو لنقل بشكل سهل. فلا خفايا ولا مناورات ولا تدليس. ولأن الأمر كذلك لم يتردد إيمانويل ماكرون مطلع هذا العام في الحديث عن ضرورة إنشاء جيش أوروبي موحد. والفكرة لاقت استحسانا واسع النطاق على صعيد القارة. وهؤلاء الذين يؤيدون مثل هذا التوجه، ينطلقون من مسألة واحدة، وهي أن السياسة الأمريكية حيال العلاقات الدولية باتت مختلفة عما كانت عليه في السابق في ظل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأن البيت الأبيض ليس مرنا بما يكفي تجاه ما هو مطروح.
الحاصل، أن ترمب يشن منذ وصوله إلى الحكم حملة على الصعيد التجاري ضد الاتحاد الأوروبي، وفرض بالفعل بعض الرسوم الجمركية الإضافية على عدد من الصادرات الأوروبية، ويمضي قدما في هذه السياسة التي طبقها بصورة أكبر مع الصين، منطلقا "مرة أخرى" من مفهومه أن الولايات المتحدة تتعرض للظلم على الساحة الدولية، نتيجة مشاركاتها المختلفة هنا وهنا، ولا سيما على الصعيدين العسكري والاقتصادي. هذه الخلافات في المفاهيم، ظهرت جلية وعلى الملأ في أكثر من مناسبة جمعت الولايات المتحدة، خصوصا التلاسن الشهير الذي شاهده مئات الملايين من البشر على الهواء مباشرة بين ترمب وعدد من قادة "مجموعة السبع". مثل ذلك طرح مجموعة من الأسئلة ليس حول مستقبل "الناتو" فحسب، بل عن مصير النظام العالمي الذي يرى الأوروبيون أنه يعيش حالة من الإرباك الشديد.
فرنسا تمضي أبعد من ذلك، وتصف الحالة بأن "النظام العالمي واقع في أزمة غير مسبوقة". لكن الأمر ليس بهذه الصورة عند المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي وجدت أن موقف ماكرون حيال هذا النظام "مبالغ فيه". لكن الأهم في كل هذا صراحة الرئيس الفرنسي الخالصة، حين قال علنا أيضا، إنه يسعى إلى منع انقسام العالم حول قوتين كبيرتين هما الولايات المتحدة والصين. وهذا بالضبط أحد دوافع فرنسا في إنشاء جيش أوروبي موحد، خصوصا أن هناك الأساس الذي يمكن أن يستند إليه هذا الجيش المزمع. ليس مهما موقف بريطانيا حاليا في هذا المجال. فهذا البلد الذي يخوض أهم انتخابات عامة منذ الحرب العالمية الثانية منقسم بين كتلتين سياسيتين الأولى تهرول نحو علاقات متميزة غير مسبوقة مع الولايات المتحدة، والأخرى تكاد "تجرم" من يتحدث عن مثل هذه العلاقات. ناهيك عن أن المملكة المتحدة باتت أقرب للخروج من الاتحاد الأوروبي أكثر من أي وقت مضى.
الجيش الأوروبي الموحد، الذي لا شك يسعى الرئيس الفرنسي إلى أن يكون الأداة المحورية في إخراج النظام العالمي من أزمته، بدأ يأخذ أشكالا مبدئية مختلفة، بما في ذلك موافقة الحكومات الأوروبية على 13 مشروعا دفاعيا جديدا. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن الخلافات الأوروبية ضمن الاتحاد لا ترقى إلى تعطيل أي شيء حاليا. فحتى رفض فرنسا الأخير ضم البوسنة وألبانيا للاتحاد الأوروبي مر على قادة القارة، رغم تأييدهم الكبير لانضمام هذين البلدين، بمن فيهم المستشارة ميركل. وهناك سلسلة أخرى من المشاريع الدفاعية ستظهر على السطح في المرحلة المقبلة، وكلها تستهدف تخفيف الاعتماد على حلف "الناتو" بوضعيته الحالية المريضة وفق ماكرون يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي يرى أنه قوة عالمية ضخمة تستحق الدور الذي يليق بها، بوجود إدارة أمريكية أكثر محلية من كونها عالمية.
ليست هناك حدود للطموح الأوروبي على الساحة العالمية. فحتى الضربة التي تلقاها الاتحاد من مسألة انسحاب بريطانيا منه، يعمل قادة أوروبا بجهد كبير على تجاوزها بأسرع وقت ممكن. دون أن ننسى أن الأوروبيين لا يزالون يستندون إلى تيار بريطاني قوي يسعى إلى إلغاء الانسحاب برمته. لكن في النهاية أوروبا ماضية وفق الرؤية الفرنسية إلى مواقع ستكون مختلفة تماما عما هي الآن في ظل النظام العالمي الحالي.

&