&بول شاؤول

تجددت السجالات الفادحة في فرنسا قبل عدة أسابيع حول مساحات المجتمع المدني أو العلماني المحتملة في الجمهورية الخامسة. ولا بد أن يكون حدث «جلل» هدد البيئة السياسية والحضارية والديمقراطية حتى انبعثت بعض القضايا التي تخفت ثم تعلو ثم تتصاعد. فما هي هذه القضية المصيرية التي شغلت بال الرأي العام الفرنسي والنخب والمثقفين والأحزاب والصحافيين والوسائط الاجتماعية؟ السبب الذي حرك نوازعهم وشحذ هممهم واشعل مخاوفهم هو مشهد عادي إذا قيس بوجود مجتمع عادي حقاً: ردة فعل عنيفة- أثناء اجتماع جهوي في «بورغون» الفرنسية- على والدة ترافق خروج مدرسي وترتدي الحجاب. ياللهول! مشهد هز المكنونات والمكبوتات.. أيهدد هذا المشهد الجمهورية المدنية العلمانية الكبيرة أم لا؟ هل تسمح به في المستقبل أم ستمنعه؟ هذه القضية كالجمر تحت الرماد في هواجس بعض

جموع الشعب الفرنسي أو أجزاء منه ليست بقليلة. فقبل نحو عشرين عاماً انفجرت هذه الفقاعة، وقيل ما قيل وانتفض من انتفض. وكتبنا عندها مقالة في جريدة «النهار» اللبنانية، وشرحنا موقفنا الرافض لردود الفعل هذه.
اليوم يتكرر المنظر المسرحي العبثي الكوميدي التراجيدي نفسه. لكن وبحسب ما قرأنا ما من جديد في سجاله: سجال ثرثري بدا الأمر فيه وكأنه بات طبيعياً في سلوك بعضهم، فكل مرة يحدث ذلك يعيد التأجيج والآراء ذاتها والدلالات والحجج ذاتها والشعبوية ذاتها والعنصرية ذاتها: المجلس الدستوري قرر ما تفترضه الجمهورية وكان حاسماً هذه المرة بعدما حاول تطبيق قراراته عديداً بعنوان «حياد الدولة» في المسألة الدينية المتمثل بفرض احترام كل المعتقدات، المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون من دون تمييز. على أن

تضمن الجمهورية حرية ممارسة الطقوس الدينية مع منع كل تماد أو استفزازية، بمعنى آخر أن العلمانية ضمانة لحرية الضمير وحرية كل مواطن في أن يكون مؤمناً أو غير مؤمن. لكن لا يمكن لأي عميل أو موظف أن يبدي رأيه في قضية داخل الصروح الرسمية أو المؤسسات العمومية دينية كانت أو حزبية أو أيديولوجية. لكن هذا القانون الحصري الذي أقر عام 2004 لا تدرك مندرجاته الفضاء الخارجي في الشارع أو الأماكن الخاصة. من هنا التناقض بين ما هو عمومي وخصوصي، وضمن هذا الإطار صرح ماكرون مؤخراً:«هذه القضية ليست من شأني»، لكن من قال إن المجتمع المدني أو العلماني يمكن أن يتعارض مع الحجاب؟ بل نقول وهل الحجاب لا يخص الرجال أيضاً؟ وهل الحجاب هو علامة خروج على المجتمع، أو علامة انخراط فيه أو حتى تطبيع وتطبع؟ فاللباس مثلاً بطرائقه وأشكاله منذ قرون سحيقة ظاهرة اجتماعية ودينية معاً: فالكوفية والعقال رمز مرتبط بالعشائر مثلاً، وكذلك الطربوش والقبعة والشادور والخوذة علامات ودلالات ثقافية واجتماعية تعبر عن مسار الحضارات والموروثات والحاضر، بل هي وسائط تعددية في المجتمعات الديمقراطية وغير الديمقراطية.

فكيف يمكننا فصل جانب من هذه الجوانب الرمزية عن كليتها التاريخية والإبداعية؟ بل حتى المأكولات وأنواعها التي غزت فرنسا والعالم لها أحياناً كثيرة خلفيات وعلامات دينية، حتى اللحم الحلال أثار استنكاراً. وماذا عن الطعام الصيني والياباني والعربي والأفريقي؟ أيمكن أن يغير أيضاً طريقة عيش الفرنسيين؟ ولماذا يعارض بعض العصابيين والمتطرفين والشعبويين ما يظهر من العرب والأفارقة كأجسام غريبة تسمم حضارتهم؟ لكن كل هذه السجالات تنم أولاً وأخيراً على الفراغ الإبداعي والفكري والسياسي والاجتماعي الذي يعيشه العالم اليوم. إنه انحطاط غير مسبوق منذ ألف عام. فكلما تقدمت التكنولوجيا تراجعت مستويات الوعي والعقل والتعليم والعلاقات. فهذه البلبلة المتكررة والشاملة التي فككت القيم الحضارية والإنسانية فككت أيضاً الكائن الفردي أو الجماعي وفككت الأواصر ورفعت الجدران الجديدة بين الشعوب.

&

&