علي بن سالم الكعبي&

لهفي على لبنان الذي يحتفل هذه الأيام بالذكرى 76 لاستقلاله. (لبنان الكرامة والشعب العنيد) كما شدت فيروز، أحمل في مخيلتي أجمل الذكريات عن لبنان، ولا أنسى جولاتي في شماله حيث سلسلة جبال الأرز بأشجارها المعمّرة، والتي تعد أشهر معالمها السياحية، وما من مرة زرت فيها لبنان إلا وأيقنت أن شعبها الجميل يعشق الحياة ويصر أفراده على البهجة والاستمتاع حتى تبدو شوارعه كرنفالاً تكسوه ألوان المحبة والوداد.

فلم تفلح الضغوط والظروف القاسية التي تعرض لها اللبنانيون في نزع البسمة عن وجوههم، في إصرار مدهش منهم على تحدي الصعاب وتجاوز المحن والخروج دوماً من النفق المظلم، من أجل ذلك لا يستطيع قلبي تجاهل ما يحدث على أرضه منذ أسابيع، مع إقراري أن غضب الجماهير لم يكن نتاج أزمة وليدة اليوم، صحيح أن ثورة الغضب انفجرت فور إعلان الحكومة فرض ضريبة على مكالمات الواتساب، لكنها مجرد قشة (قصمت ظهر البعير). فما حدث مؤخراً هو صعود لأزمات عميقة ضاربة بجذورها في المكان، وبين الحين والآخر ينتقل الصراع من السر إلى العلن ويخرج من باطن الأرض إلى سطحها.

ولعلها المرّة الأولى في تاريخ لبنان التي تحدث فيها غضبة من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه وداخل كل الطوائف بما فيها الشيعية «وفي القلب منه جمهور حزب الله»، حيث يحتشد المتظاهرين في الميادين ومعظمهم من الشباب الذين لا ينشدون سوى النشيد الوطني، وظني أن هذا الجيل لا يعرف الطائفية حيث لا يفرق بين سني وشيعي ودرزي ومسيحي، لأن الكل يعاني، والكل ضحية الطائفية، وقد آن الأوان لإيجاد حل حقيقي على أساس المواطنة.
إننا إزاء أزمة متراكمة عنوانها الأبرز وبطلها بجدارة «حزب الله» الذي يعتبر نفسه «دولة»، ويتسبب في العجز الحكومي في ظل اعتماد نظام المحاصصة وولاء المسؤول لطائفته، الأمر الذي يجعله خارج سلطة رئيس الحكومة، بل وربما نداً ومخالفاً له، وهذا وضع شاذ لا يسهم على الإطلاق في إدارة دفة البلاد، ولا يحقق صالح الوطن والشعب، وللخروج من هذه الأزمة وإبعاد شبح الفوضى لا بد من معالجة مكامن الخلل بتشكيل حكومة تكنوقراط امتثالاً لمطالب الشعب.
ومن لبنان إلى العراق مشهد الغضب الشعبي متطابق من حيث تظاهر جميع العراقيين للمطالبة بحقوقهم، لكنه أكثر دموية بالتأكيد، ضحايا عنف الأجهزة الأمنية حتى اليوم مئات القتلى والجرحى، حيث تشهد مدن العراق وخاصة في الجنوب معقل الشيعة - كربلاء والنجف والحلة والناصرية والبصرة - انتفاضة شعبية عارمة، والوضع المتفجر في العراق طوال الأسابيع الماضية وتفاصيل المطالب التي يطرحها المنتفضون في ساحاته تحت عنوان كبير (نريد وطناً) تكشف بجلاء حالة الاحتقان المجتمعي جراء تغلغل طهران وهيمنتها على القرار السياسي في بغداد.

يجدد المتظاهرون منذ الأول من أكتوبر الماضي رفضهم مقترحات بعض الكتل والأحزاب السياسية الهادفة لاحتواء غضبهم، ويواصلون حضورهم اليومي في ساحات التظاهر بينما لا يزال الإضراب عن الدوام في المدارس والمعاهد والجامعات مستمراً، فيما بحث البرلمان إمكانية إجراء تعديل وزاري محتمل في حكومة عادل عبدالمهدي ومشروع قانون جديد للانتخابات، وعدد من الخطوات الإصلاحية التي يصر المتظاهرون على أنها لا تلبي مطالبهم، فضلاً عن اضطراب الأوضاع في المواقع النفطية التي تمثل صادراتها 70% من نفط العراق بسبب قطع المتظاهرين في محافظة البصرة الطرق المؤدية إلى ميناءي خور الزبير وأم قصر وحقول الرميلة النفطية.
أشعر بكثير من الأسى على ما آل إليه حال العراق، بلد الرجال أسود الرافدين والنساء الماجدات، والدولة الغنية بثرواتها، والتي كانت ذات ثقل ووزن كبيرين في المنطقة قبل أن يتداعى عليه أعداء الخارج بدعم من بعض المنتسبين إليه ليصبح حال الشعب يرثى له. لكن انتفاضة الجماهير تؤكد مجدداً قول الشّابي (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر).

إن الحراكين اللذين عصفا بالعاصمتين بغداد وبيروت وبالمدن الأخرى في كلا البلدين أثّرا على مجمل الوضع في منطقة الشرق الأوسط.
ما يهمنا اليوم أن ما يجري هو إعلان واضح عن فشل المشاريع التدخلية، التي ترفضها الشعوب التي لا تريد خوض حروب بالوكالة عن أطراف خارجية.
الرسائل التي هتفت بها حناجر المحتجين في العراق ولبنان أكدت أن هذه الشعوب لا يكتسب ودها ولا صداقتها عبر التسلط والهيمنة على مقدراتها، فهي ترفض وبوضوح تقبل التدخلات الخارجية في البلدين، وقد حدث ذلك بصورة مفاجئة فاقت كل التوقعات، وخاصة في المدن والأوساط التي لطالما تأثرت بهذه التدخلات كجنوب لبنان، ومدن وسط وجنوب العراق. فهل مضمون رسائل الشعوب وصل؟ وهل يقتنع من دأب على التدخل بأن لا مستقبل لمشاريعه التوسعية في المنطقة! أم سيواصل عناده متجاهلاً صوت الشعوب! أتمنى أن تصل الرسالة جيداً قبل فوات الأوان.

&

&