&مشعل السديري

فقع مرارتي ذلك الرجل الذي لا ألتقيه في أي مناسبة، إلاّ وهو يردد: راحوا الطيبين، راحوا الطيبين، فاضطررت في إحدى المرّات أن أسأله: من هؤلاء الذين صدعت بهم رؤوسنا؟!

فقال: هم الأوائل، فكل جيل يأتي هو أردأ من سابقه، فقلت له بهدوء: هون عليك يا رعاك الله، ففي كل جيل أو زمان هناك الإنسان الطيب وهناك الإنسان الرديء، بل إنه حصل حتى في زمن سيد الخلق محمد بن عبد الله، فلم يخلُ ذلك العصر من السارق والزاني والمنافق والقاتل والراشي والمرتشي، لهذا قال لهم المصطفى: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

وقبل أن أسترسل وإذا به يقاطعني بصوته المصرصع قائلاً: أين نحن من زمن أسلافنا الأوائل، عندما كانت حضارتنا الإسلامية في أزهى عظمتها، بل إنهم في بعض تلك الحقب كانوا يبحثون عن الفقير لكي يتصدقوا عليه فلا يجدونه.
عندها عرفت أنني أجدّف في بحر من الرماد، لهذا صمتت و(أكلت هوا).

وقبل أيام كنت أقرأ بالصدفة مقالاً في جريدة الرياض للأستاذ عبد الله بن بخيت، وتذكرت على الفور أخانا بالله الذي يتحسر على زمان الناس الطيبين، وود لو كان منهم، لهذا اسمحوا لي أن اقتطع جزءاً مما ذكره الأستاذ عبد الله الذي يقول:
الماضي الذي تحلم به وتمجده خالٍ تماماً من أسباب الرفاهية، لا يوجد كهرباء ولا ماء جارٍ ولا مستشفيات ولا نظافة ولا تنفصل حياة الإنسان عن حيواناته الأليفة، عندما تخرج للشارع لا تتخيل أنك تخرج لطريق الملك أو العليا، فالطرق في ذلك الزمان سكة صغيرة مغبرة تجوبها الحيوانات بكل أنواعها: الجمال والخيل والبقر والماعز والكلاب والقطط وإذا انحنيت ستشاهد كل أشكال الحشرات ثم عليك أن تتعود الغبار الملوث الذي تثيره الحيوانات.

ستلتقي يومياً بالعميان والمرضى والمعوقين والمجانين والبرص والمجذومين فهؤلاء هم حياتك اليومية، وإذا سمعت من المؤرخين أو الفقهاء كلمة الأسواق المزدهرة في عصر الخليفة الفلاني، كعصر هارون الرشيد (الذهبي) مثلاً،
فلن تنقل معك المكيف والثلاجة والمضادات الحيوية والجوال والشامبو والصابون، أما حمامك الذي تقضي فيه حاجتك أنت وأسرتك، فمكان ملوث على ضفاف نهر الفرات ودجلة - انتهى.
وأنا بدوري أتمنى أن ينتقل الأستاذ عبد الله بغمضة عين إلى عصر الرشيد ليستمتع باستنشاق العبير على ضفاف الفرات ودجلة، ثم ينقل لنا من هناك مشاهداته بالصوت والصورة.