&محمد كركوتي

&

"بوريس جونسون قد يكون آخر رئيس وزراء للمملكة المتحدة"
جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق

في زحمة انتخابات بريطانية عامة اتفق على وصفها بـ"انتخابات بريكست"، أو الخروج من الاتحاد الأوروبي، يتصاعد الحديث عن تعاظم المشاعر القومية الإنجليزية بصورة كبيرة. ورغم أن هذا الأمر ليس جديدا، إلا أنه في أعقاب الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في عام 2016، صار حاضرا بقوة، وأصبح أنصار هذه القومية يتحدثون بحرية وعلى الملأ، بعد قرون من إبقاء مشاعرهم هذه في أضيق الحدود الممكنة. كانوا يعرفون أن "سوق" القومية المذكورة ليست رائجة، وفي أغلب الأحيان ينظر إليها على أنها موضوع مشين بعض الشيء، ومسألة تهدد كيان المملكة المتحدة كله. ناهيك عن الموجات الليبرالية التي شهدتها البلاد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكذلك الأمر في بقية دول أوروبا الغربية. وهي موجات كانت تتجاوز الوطن -أي وطن- إلى ساحات قارية وعالمية أوسع.

صحيح أنه لا يزال طرح موضوع القومية الإنجليزية في بريطانيا محرجا بصورة أو بأخرى، لكن الصحيح أنه يطرح بسلوكيات تتجاوز الحرج، خصوصا مع وجود تفاعل شعبي معه، يؤدي تلقائيا إلى دعم انتخابي هنا، ومساندة شعبية هناك. بعد قرار "بريكست" تغير كثير من المفاهيم الراسخة على الساحة البريطانية، حتى إن السلطات الأمنية في البلاد أصدرت لأول مرة كتيبا لإرشاد المرشحين في الانتخابات العامة التي ستجري في 12 من الشهر المقبل، حول كيفية حماية أنفسهم من أي اعتداء في دوائرهم الانتخابية. وفي الأعوام الثلاثة الماضية كثر مثل هذه الاعتداءات ضد نواب من كلا الطرفين "المؤيد للخروج والداعم للبقاء"، في حين لم تغب عن الأذهان جريمة القتل التي تعرضت لها جو كوكس النائبة العمالية عام 2016، لتزعمها حملة ضد "بريكست". كانت بالفعل جريمة تدخل نطاق العار في المجتمع البريطاني.

جوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق اتهم علنا حزب المحافظين الحاكم بـ"إثارة النزعة القومية الإنجليزية"، واصفا مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنها "سم في الحياة الوطنية البريطانية". لكن هذا ليس مهما، لماذا؟ لأن براون كان زعيما عماليا، ومؤيدا للبقاء في هذا الاتحاد. المهم حقا ما أعلنه عدد من الوزراء والنواب البارزين في حزب المحافظين نفسه، أنه بات "حزبا قوميا إنجليزيا". بعض هؤلاء استقال بالفعل من هذه الحكومة من كرسيه النيابي أيضا، مفضلا الخروج من المشهد السياسي كي لا يكون مشاركا في هذا التحول الخطير، والبعض الآخر فضل البقاء بصفة مستقل، وآخرون انشقوا عن المحافظين إلى أحزاب أخرى، وهي أحزاب لا تزال تؤمن بحتمية بقاء كيان المملكة المتحدة، وبضرورة ضرب المشاعر القومية "غير الصحية" التي تتفشى في المشهد البريطاني العام.
لا شك أن هذه التحولات على الصعيد القومي تلقت دفعا قويا يمكن وصفه بـ"الشعبوية الاقتصادية"، لكن في الوقت نفسه لا يمكن التقليل من المشاعر الانعزالية لدى شرائح واسعة من البريطانيين، ولا سيما تلك التي ينضوي تحتها كبار السن الذين صوت أغلبهم لمصلحة "بريكست". واللافت أن هؤلاء يعترفون أن أبناءهم يقفون ضدهم في هذا التوجه الانفصالي الانعزالي دون أن ننسى، أن شرائح الشباب لا يرون مستقبلا لبلادهم بعيدا عن الجيران الأوروبيين. ويعتقدون أن النزعة الانفصالية القومية ستنتهي برحيل الكبار عن هذه الدنيا. لكن الأضرار ستبقى لأمد لن يكون قصيرا، خصوصا في ظل تبني حزب كبير كالمحافظين هذه النزعة، وإن كان من الناحية السياسية الوطنية لا يعترف بوجودها، مع التأكيد أنه يعمل على مدار الساعة لتبريرها بأجمل لغة ممكنة.
اللافت في الأمر، أن بوريس جونسون رئيس الوزراء نفسه كان معروفا بدعمه بقاء بلاده في الاتحاد الأوروبي، وكذلك الأمر لبعض قادة حملة "بريكست". ولأنه قرأ المشهد المجتمعي البريطاني جيدا، ولأنه أيضا معروف بانتهازيته التي تحدث عنها وعنه علنا ديفيد كاميرون، رئيسه الأسبق وجد أن تعاظم مشاعر القومية الإنجليزية أداة جاهزة له للوصول إلى السلطة، فقام بتبنيها دون أن يحمل شعارها! متسلحا بتصويت 51.9 في المائة من الناخبين لـ"بريكست"، مقابل 48.1 في المائة للبقاء. ورغم أن الفارق ليس واسعا بين المعسكرين، إلا أنه قدم نفسه باعتباره الرجل الأكثر التزاما بتنفيذ نتائج الاستفتاء في بريطانيا كلها. هل هو تفويض؟ نعم إنه كذلك، لكن المشكلة ليست هنا، بل في حقيقة الخروج البريطاني نفسه.

"القومية الإنجليزية" ليست الوحيدة على الساحة الأوروبية بالطبع، لكنها أحدثت صدى واسعا، لأنها تتصاعد في ظل دولة فيدرالية مستقرة، بصرف النظر عن المنغص الإيرلندي. و"قومية إنجلترا" لا تستهدف الأوروبيين واتحادهم والروابط التاريخية معهم فقط، بل تهدد كيان المملكة المتحدة نفسه. فهذه القومية، شجعت هي الأخرى مشاعر قومية في اسكتلندا وويلز، دون أن ننسى المشاعر القومية الثابتة تاريخيا والقوية أيضا في إيرلندا الشمالية.