سليمان ماجد الشاهين&

&يُستحضر التاريخ بأشخاصه عندما تتشابه الظروف الحاضرة بتوازيها أو تماهيها كما يقول أصحاب الحداثة بصورة أو أخرى مع الماضي السحيق أو القريب، وأمتنا التي تعيش بعض قضاياها المعلقة منذ أجيال، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، في قلب هذا التاريخ المتواصل بحلقاته المترابطة. ولعلنا في هذه الجزيرة العربية المباركة نتمثل، أو نمثل العمق الروحي بيننا وبين فلسطين بقول الله تعالى: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير». نقرأ هذه الآية الكريمة مع مئات الملايين من المسلمين حول العالم فتهفو الأنفس المؤمنة إلى هذين الموقعين إيمانياً أو جغرافياً لتعتمل بعدها التساؤلات السياسية التي تثيرنا بأطيافها المتعددة والمتفاوتة.

ومن هنا يبدأ منطلق حديثنا. ففي عام 1945، والحرب العالمية الثانية الرهيبة على مشارف نهايتها بانتصار الحلفاء الأوروبيين مع أميركا ضد ألمانيا النازية، كان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أمل أوروبا في القضاء على أدولف هتلر وهزيمة ألمانيا نهائياً، وأحسب أن مقولة «لكل شيء في الوجود ثمن مناسب» راسخة في الذهن الأميركي، حيث أتاحت هذه الحرب الفرصة الذهبية لأميركا كي تخرج من حدود قارتها عبر الأطلسي عائدة مرة أخرى إلى جذورها في أوروبا بالدرجة الأولى التي أصبح لها النفوذ الكبير في أفريقيا وآسيا، والمنتظر توسعة هذا النفوذ وتعميقه بعد نهاية هذه الحرب الكونية.

وبطبيعة الحال، فإن الظروف الدولية تكاملت لدى مخططي السياسة الأميركية في أن لها – أي أميركا – دوراً مهماً لا بد أن تلعبه على المسرح الدولي، ولن تكون نقطة الانطلاق أفضل من ساعتها إذا ذاك، حيث أنهى الرئيس – روزفلت – اجتماعاته مع قادة الحلفاء تشرشل وستالين في يالطا بالقرم السوفيتية وما تم التوافق عليه من تقسيم المصالح والنفوذ بين المقتربين من الانتصار النهائي، وكأن ذلك الحدث إشارة البدء في تنفيذ السياسة الأميركية المنتظرة، حيث أفصح الرئيس الأميركي إلى حليفه رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بعزمه على القيام بلقاءات مع ثلاثة من قادة الشرق الأدنى، وهو تعبير جغرافي سياسي في تقسيم الشرق: إلى أدنى وأوسط وأقصى، حيث الموقع من أوروبا.. محدداً إياهم بالملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، والملك فاروق ملك مصر، والإمبراطور هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة. في ذلك التاريخ من عام 1945، كان الملك المؤسس عبد العزيز – طيب الله ثراه – في أوج قوته ونفوذه ومكانته، فهو الأسطورة في استعادة الرياض في الخامس عشر من يناير 1902، العاصمة التاريخية لأجداده ال سعود، والتي انطلق منها إلى توحيد الجزيرة العربية بين البحر الاحمر غرباً الى الخليج العربي شرقاً لأول مرة في تاريخها في مملكة لها مكانتها ودورها في العالم.

ولا شك ان لدى الولايات المتحدة التفاصيل الدقيقة عن هذه الشخصية التاريخية، فضلا عن المعرفة العلمية لموقع المملكة وما تخفيه من طاقة سيكون لها دورها وسيطرتها على الاقتصاد العالمي حتى نهاية القرن الحادي والعشرين على الاقل، ولأميركا بعثة سياسية في جده برئاسة اول وزير مفوض هو الكولونيل وليم ايدي WILLIAM .A. EDDY منذ عام 1944، حيث اوكل اليه الرئيس روزفلت دعوة العاهل السعودي للقاء معه والاجتماع به على متن البارجة USS QUINCY التي كان يستقلها روزفلت من الولايات المتحدة إلى اجتماع يالطا المشار إليه، ولأسباب أمنية تحدد الاجتماع في البحيرات المرة في قناة السويس ضمن ظروف دقيقة تحاشياً لأي هجوم محتمل من الالمان. ويكتسب هذا اللقاء الذي وافق عليه العاهل السعودي اهمية ذات دلالات غير معهودة، في ان اللقاء وتوقيته وتحديد مكانه املتها ظروف الحرب واهمية المجتمعين، فالملك عبدالعزيز يغادر بلاده لأول مرة بعد قيام المملكة وتمت ترتيبات الرحلة المتفق عليها بالمغادرة من جدة في الرابع عشر من فبراير 1945 على متن البارجة USS MURPHY الى قناة السويس ومنها الى البحيرات المرة حيث الاستقبال الرسمي على ظهر البارجة كونسي المشار اليها كمقر للاجتماع. وتجاوزاً للقضايا المهمة الاخرى التي جرى تناولها فإن بيت القصيد هي قضية فلسطين وهي الاختيار من هذا المحضر المهم، كما ان من المؤكد بأن هذا الموضوع هو ايضا الاهم في ذهن روزفلت، اذ افصح عنه بأسلوب مدروس فاختار مقدمة ربما اقترحها المستشارون تخاطب الحس العربي في التودد الى الطرف الآخر وذلك بطلب النصيحة والرأي، وهذا بالضبط الذي بدأ به الرئيس روزفلت مخاطباً الملك بأن لديه مشكلة معقدة يرجو فيها مساعدة جلالة الملك بالرأي والمشورة وتتمثل هذه القضية في اعادة توطين يهود وسط اوروبا الذين قاسوا الظلم على ايدي النازيين من ابادة وتشريد وهدم منازلهم، وهو؛ اي روزفلت، يشعر بمسؤولية ذاتية، وبالتالي يرهن جهوده لحل هذه المشكلة المأساوية فماذا يرى او يقترح جلالة الملك حيالها؟

وهنا جاء رد الملك حاسماً ومن دون مقدمات «اعطوهم وامنحوا ذريتهم الاراضي والمساكن والتعويضات التي يستحقونها من ممتلكات الالمان النازيين الذين اضطهدوهم». وإزاء هذا الرد الذي لم يتوقعه الرئيس روزفلت قال: ولكن من بقي من اليهود في المانيا لهم رغبة وحنين في الاستقرار بفلسطين، ولو ظلوا في المانيا سوف يتعرضون للاضطهاد. فأجاب الملك: لا شك في ان اليهود لهم المبرر في عدم الثقة بالالمان، ولكن نحن ايضا لنا ثقة في الحلفاء بأنكم ستقضون على النازيين، فإذا كان الحلفاء لم يتوقعوا الخلاص من المانيا النازية نهائياً والى الابد، فلماذا اذا القيام بهذه الحرب المكلفة، مضيفا انه؛ اي الملك، لا يتصور ابقاء عدوك ضمن اية حالة تمكنه من العودة الى القتال بعد هزيمته.. وهنا، وبعد ان استوعب الرئيس روزفلت موقف الملك عاد مرة أخرى بلغة الاستمالة بقوله: نحن الأميركان نقدر، بل نعول على كرم الضيافة العربية ومساعدة الملك في حل المشكلة الصهيونية، ولم يتردد الملك في الرد بنفس الصرامة بقوله: أجبروا العدو على أن يتحمل ثمن جريمته بهذه الطريقة. نحن العرب نفهم الحروب.. المجرم هو من يدفع الثمن وليس الأبرياء، متسائلاً: أي جرم ارتكبه العرب ضد يهود أوروبا؟ فعلى المسيحيين الألمان أن يتحملوا نتائج فعلتهم. مرة أخرى عبّر روزفلت عن أسفه بأن الملك لم يقدم أي شيء لمساعدته في هذه المشكلة.. ويستطرد المحضر بالقول: يبدو أن الملك فقد صبره فأجاب: كعربي وبدوي لا يستطيع استيعاب موقف الرئيس ومراعاته لأعدائه الألمان النازيين على حساب أصدقائه. وأضاف موضحاً: ان التقاليد العربية في الحروب القبلية تدعو المنتصر إلى احتضان ضحايا المعارك وإمدادهم بما يكفل لهم الحياة. وهناك خمسون دولة في محور الحلفاء في هذه الحرب، ومنها فلسطين وبإمكاناتها المحدودة استوعبت النسبة الأكبر من المهاجرين الأوروبيين. بهذا الموقف الواضح أبدى الملك عبدالعزيز آل سعود وجهة النظر السعودية حيال الدعوة الأميركية. Volume 0% & وينتقل المحضر إلى مناقشة العلاقات الثنائية، حيث أكد الملك أن اهتمامه الأول هو المحافظة على استقلال شعبه ووطنه بعون الله، فوطنه لم يتعرض لأي احتلال ولم يطلب الحماية. مؤكداً للرئيس أهمية قيام صداقة حقيقية قائمة على الاحترام المتبادل بين الطرفين وعندما تدعو المملكة إلى مثل هذه الصداقة والتعاون يضع في اعتباره دعوة الرئيس روزفلت وإعلانه بتبني مبدأ الحريات الأربع في الولايات المتحدة والقائمة على أساس حرية التعبير وحرية المعتقد والتحرر من العوز والحاجة، والتحرر من الخوف. فالولايات المتحدة لم تستعمر أحداً ولم يستعمرها أحد، وهكذا يجب ان تقوم الصداقة بين الطرفين وهو ما وافق عليه الرئيس. هذا.

وينقل المحضر الذي نشرته مؤسسة الصداقة الأميركية للشرق الأوسط AMERICAN FRIENDS OF THE MIDDLE EAST INC عام 1945 بأن الرئيس روزفلت أكد موقفه برسائل إلى العاهل السعودي يؤكد فيها على النقطتين الأساسيتين المتفق عليهما في هذا الاجتماع التاريخي وهما: أولاً: شخصياً. وكرئيس لن يقدم على أي خطوة عدائية للعرب بما يتعلق بموضوع فلسطين. ثانياً: ان حكومة الولايات المتحدة لن تغير سياستها المبدئية في فلسطين من دون مشاورات متفق عليها بين العرب واليهود. بهذه المبادئ الواضحة والطرح الراقي تم هذا الاجتماع التاريخي بين العاهلين الكبيرين، وكان هذا الالتزام الواضح هو الأخير مع الأسف للرئيس روزفلت، حيث توفي بعد شهر من هذا اللقاء.

ويواصل التاريخ مساره بهذه القضية برئاسة ترومان خلفاً لروزفلت فاستدعى رؤساء البعثات الدبلوماسية الأميركية في كل من مصر وسوريا ولبنان والسعودية والقنصل العام في فلسطين ليسمع آراءهم حول القضية الفلسطينية، ويبدو أن ترومان قد حسم موقفه مسبقاً خلافاً لما تعهد به سلفه بقوله للمجتمعين معه: «يؤسفني يا سادة بأن عليّ أن أجيب أو أتجاوب مع مئات الآلاف من أصوات الناخبين الداعمين للصهيونية.. فأنا لا أملك مئات الآلاف من الأصوات العربية في دوائري الانتخابية». واليوم يعود المشهد نفسه بموقف الرئيس ترامب حيال تهويد القدس والمستوطنات فما أشبه الليلة بالبارحة.



&