&عبد الإله بلقزيز

سيكون عسيراً على المرء أن يفهم ظاهرة التبدُّل الذي طرأ على معنى كلّ مفهومٍ من مفاهيم السياسة، في المئة عام الأخيرة، من غير أن يستدعيَ السياقات التاريخيّة: السياسيّة والاجتماعيّة، التي ألْقت نتائجُها بعظيم الآثار على المفهومات تلك فأعادت بناء دلالاتها بما يناسب الواقع المتغيّر. وإذا كان من البيّن أنّ كلّ مفهوم هو، حكماً، وليدُ حقبة تاريخيّة، مثلما هو وليد حقبةٍ من المعرفة تحكمُها براديغمات بعينها؛ وإذا كانت مفاهيم السياسة الحديثة وُلِدت في مخاضات تاريخٍ من التطورات السياسيّة والمعارف امتدّ من القرن السابع عشر إلى بدايات القرن العشرين (هو تاريخ فلسفة العقد الاجتماعيّ ونقدِها وتاريخ الدولة الوطنيّة)، فإنّ من البيّن أنّ ما يتولّد من ذلك التاريخ من حصائلَ ونتائجَ لا بدَّ واجدٌ طريقَه إلى التأثير في مجمل المعارف واليقينيّات التي تُكَثِّفها (تلك) المفاهيم وتعبّر عنها. من الطبيعيّ، إذاً، أن يجد مفهومٌ مّا نفسَه، في لحظةٍ من التطوّر، يعبّر عن دلالةٍ جديدة تطابِق معطيات اللحظة الجديدة التي يساوقها، فيبدو - معها - وكأنّ زحزحةً كبيرة لمضمونه حصلتْ ففصَلتْه عمّا كانَه أو، قل، عمّا عناهُ في ماضيه أو في أصوله المرجعيّة.
هل يُفهم من هذا أنّ المفاهيم تنفصل، في تجدُّدها، عن أصولها أو تنقلب عليها فتستحيل أخرى؟
نرجئ الجواب عن هذا السؤال إلى حين إلقاء ضوءٍ سريعٍ على ما تَغَيَّر في السياسة والتاريخ، فاستجرَّ تغيُّراً في المفاهيم.

تنتمي مفاهيم الحقّ، والقوّة، والسيادة، والمواطنة، والحريّة، والمساواة، والأغلبية السياسيّة، والفصل بين السُّلط...، إلى فلسفة السياسة الحديثة وفلسفة القانون الحديثة. وهي، جميعُها، وجدت تجسيداً ماديّاً لها في نظام الدولة الوطنيّة الحديثة؛ خاصّةً منذ إعلان الدستور الأمريكيّ وصولاً إلى إعلان مبادئ الثورة الفرنسيّة. ولقد ظلّت هذه المفاهيم (مطبّقةً) في جملة أثاث المعمار السياسيّ الذي قام في بلدان غرب أوروبا والولايات المتحدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعُدَّتْ المفاهيمَ المفتاحيّة للحداثة السياسيّة والمعيارَ المرجعيّ الذي به قياسُ هذه الأخيرة. غير أنّ نموذج الدولة الوطنيّة، الذي أتى يجسّدها فينقلها من الحيّز الذهنيّ المجرّد إلى الواقع التاريخيّ، سرعان ما تَعَرَّض لتأزُّمٍ متزايد منذ النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، فأوْحى وكأنّ الدولة الوطنيّة حادت عن نموذجها الفكريّ الذي مَتَحَت منه، عند بعضٍ، فيما أوْحى، عند بعضٍ ثانٍ، بعَوَارٍ في الهندسة النظريّة نفسها لهذه الدولة، أي فلسفة العقد الاجتماعيّ التي أسَّست لها كدولة. إذا كان نقد توكڤيل للثورة الفرنسيّة وتناقضات نموذجها السياسيّ، ونقد جون ستيوارت مِل للديمقراطيّة الأوروبيّة، القائمة على نظام الأغلبية التمثيليّة والمضمِرة للطغيان، مثالاً لنقد نموذج الدولة الوطنيّة، فإنّ نقد هيغل وماركس انصرف إلى بيان قصور فلسفة السياسة نفسها.
تَسَاوقَ النقدُ هذا مع أزمةٍ في النموذج أرهصت، مبكِّراً؛ لكنها استفحلت في نهايات القرن وفي مطالع لاحِقة (العشرين) لتتّخذ شكلاً انفجارياً بمناسبة قيام النظام النازيّ في ألمانيا. فضَحتِ النازيّةُ نموذجَ الدولة الوطنيّة؛ فضحتْ ديمقراطيّةً واقتراعاً وأغلبيّة قد تُنجِب (وهي أنجبت) نقيضها: النازيّةُ الدمويّة، ثم أتَتِ الكلاّنيّةُ الستالينيّة تُكمِل البقيَّة وتفضح الثورة: النموذج البديل للدولة الليبراليّة. من حينِها بدأتِ المخافةُ على الأفراد والحرّيات تَعْظُم، وبَدَا معها الحديث، جهراً، عن أولويّاتٍ جديدة: أولويّة الحقوق على الواجبات، الحريّة على السيادة، الفرد على الدولة. ثمّ ما لبث أن بدأ الشكّ يتسرّب إلى كلّ المنظومة: إلى مفهوم المواطَنَة، والمساواة، والقانون، والتمثيل، والاقتراع، وحقوق الأغلبية، والاقتصاد المُدَوْلَن...إلخ. إنّها عينُها الفترة التي ستشهد على الصعود المدويّ لفكرة حقوق الإنسان وللفردانيّة (1945 - 1988)، والتي ستأخذ اندفاعَاتَها مع بداية حقبة العولمة. لا عجب إنْ كان قد ازدهر، في السياق هذا، خطابٌ ليبراليٌّ كثيف مدارُهُ على فكرة النهايات: نهاية التاريخ، نهاية الإيديولوجيا، نهاية الدولة، نهاية المجتمع...، وما خفي أعظم! هل انزاحت مفاهيمُ السياسة عن معانيها المرجعيّة الأصل؟

بمعنى مّا؛ نعم. المفاهيم، هذه الحال، تكثيفٌ معرفيّ ونظريّ لتصوّراتٍ تقوم في التاريخ وتتأثر بما يحدُث من تبدُّلاتٍ فيه و، بالتالي، تنمو دلالاتُها في سياقات ذلك التطوّر. ليستِ المفاهيم بنيات مغلقة ثابتة وميتافيزيقيّة؛ هي كائنات معرفيّة تنمو وتغتني، بالتالي، بدلالات جديدة قد يبلُغ بعضُها حدَّ الانفصال عن دلالاته الأصل. مبدأ المواطَنَة، في المقالة الليبراليّة، هو المساواة السياسيّة أمام القانون. أمّا في المقالة الماركسيّة فلا مساواة بوجود تفاوُتٍ على صعيد الحقوق الاجتماعيّة - الاقتصاديّة وبالتالي، فالمساواة الحقيقيّة هي العدالة الاجتماعيّة. هذا خلافٌ عميق بين المنظومتين في تأويل مفاهيم المواطَنَة والحقوق والمساواة. والحريّة، في التأويل الليبراليّ، معطى سياسيٌّ قائمٌ في الدولة الحديثة، ومن تَبَدِّياته حريّة التملّك؛ أمّا في الماركسيّة فلا حريّة مع وجود استغلالٍ لفائض القيمة.
من البيّن، إذاً، أنّ مفاهيم السياسة المسيطرة اليوم، والغالبة على التداوُل العموميّ والكلام السياسيّ؛ بل على التأليف الأكاديميّ، هي مفاهيم الليبراليّة الجديدة؛ هذه التي نقلتْها العولمة وسياساتُ النخب المحافظة (في أمريكا وبريطانيا، ابتداءً، ثم في مجموع أوروبا ومعظم العالم) من حيِّز الأفكار والتصوّرات إلى حيِّز الواقع الماديّ والسياسات المطبَّقة.

&