& فهد سليمان الشقيران&&

حرارة الدم البريء ترهق العراق، والمظاهرات الساخطة تفضح السياسيين في لبنان، وما بينهما إحراج سياسي عربي بالغ في الدول التي عانت من سطوة الآيديولوجيا، وجنون الأحزاب الشمولية البعثية والقومية والأصولية، تاريخ من الانكسارات والخُسف. عقود من التجارب المؤلمة، والخطايا السياسية الآثمة.

بينما كانت دول الخليج تبني بيوتها بصمتٍ، وتحفر عن ثرواتها بانتظام، لم تكن النظرة إليها من بعض العرب إلا ناقمة، فهم بقايا من بدوٍ ورعاة، والإنسان الخليجي يصفه نزار بحقدٍ دفين بأنه «من يأكل الجدري منه الوجه والمعصم»؛ نبذ مستمر من شعراء وكتّاب ومفكرين عرب.. الخليجيون - كما يرون - لا ميّزة لهم سوى النفط، ولا ثيمة لهم إلا الإبل، افتراء مبكر، وهجوم جائر من قبل بعض العرب على الخليج الذي لم يكن أهله يستحسن الشعارات الفارغة، ولا يصدّق الثرثرات المرصوفة، ولا الأيقونات السياسية الفتّاكة.
أسس قادته نموذجاً استثنائياً وزرعوا بذوراً آتت أكلها بعد سبعة عقودٍ من السعي الحثيث، واستثمار الخير العميم، وتطوير الإنسان.
البعض عيّر الخليج بأنه عبارة عن إمارات وملكيات، مقابل جمهورياتهم، وأن دوله بلا صناديق اقتراع ولا لافتات انتخاب. لقد جربتُ من قبل محاولة شرح النموذج السياسي في الخليج لمثقفين، كتبهم تملأ الرفوف لم تستبن جماجمهم معنى أن يكون الناس في بلدانهم هنا يؤمنون بما يقوم بهم الحاكم، ينادون حكّامهم بكنيتهم، أو باسمه مجرداً، ويقولون رأيهم، ولكنهم يسيرون في مشروعه وخطته، يختارونه ويبايعونه من بينهم باعتباره الأقوى والأقدر والأصلح على تحقيق أهدافهم. لا يعلم كثر أن العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم في الخليج قائم على العهد الوثيق والبساطة في التعامل والتواصل، ومن يقرأ ما كتب عن الملك المؤسس من كتابات لحافظ وهبة والزركلي والمارك وسواهم يجد المخاطبات المباشرة مع الناس وجهاً لوجه، آمنوا بهذا الرجل وأعطوه الثقة الكاملة، ورأوا فيه الإمام الذي يخرجهم من وجع الصحراء، وتيه السنين، بعملٍ دؤوبٍ ينجيهم من غدر الرمال، كانت تلك العقود الصادقة أساس صناعة التاريخ في الخليج.

والميّزة الأهم أن هذه الدول قادرة على تجديد نفسها بانتظام، عمر السعودية ثلاثمائة سنة، في كل مرة تنهض بقوة مضاعفة.

التحولات في التعليم، والمؤسسات الثقافية، والمجالات العدلية، والمسارات الإعلامية، كلها منحت السعودية قصب السبق. لقد جاء الأمير محمد بن سلمان ليكون من القادة الاستثنائيين في تاريخ المنطقة، لأنه يعلم ما يريد منه شعبه، ويعلم كيف يحقق أحلامهم وآمالهم، يدرك ما يجول في خواطرهم، وما يتمنونه لدولتهم وحياتهم ودنياهم، ما يصبون إليه في معاشهم.. وضع خططاً محكمة، وسعى لأن تكون السعودية محققة لمعنى الدولة بمفهومها الحديث، دولة حديثة مبنية على أسس راسخة جذورها بالتاريخ، منتظمة بقيمٍ مقدّرة، مع الوثب الشجاع نحو العصر واللحاق والمنافسة لأكثر الأمم حداثة ومعاصرة في العالم.

إن نجاح خطة الحرب على الفساد في السعودية أجج مشاعر الجماهير في الدول العربية الفاسدة، تتوق إلى قوة بمثل عزيمة القائد في السعودية حين أعلن التحقيق الحازم مع كل من تثبت الأدلة شبهته بالفساد، وهذا أساسي في أي نظرية فلسفية في العقد الاجتماعي. الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز ألف كتابه «اللفياثان» عام 1651 تحدث فيه عن الدولة والإنصاف ومما قاله: «يتطلب أمن الشعب من الذي أو الذين يملكون القوة المهيمنة أن تطبق العدالة على جميع فئات الشعب، بشكلٍ متساوٍ، أي أن يتمكن الأشخاص الأغنياء والنافذون وكذا الأشخاص الفقراء والمغمورون من استعادة حقوقهم من جراء الأضرار التي لحقت بهم بالشكل الذي لا يمكن للأشخاص الذين يحتلون مكانة سامية في المجتمع أن يأملوا في الإفلات من العقاب لما يتصرفون بعنف تجاه الأشخاص الذين ينتمون لمكانة أدنى منهم، ويهينونهم ويلحقون بهم الأضرار، أو العكس وهذا هو معنى الإنصاف».
هذه القوة السعودية في تحقيق العدالة وملاحقة الفاسدين الكبار والصغار هي المدخل لتأسيس واقع سياسي واجتماعي أنيق، والفساد أكثر تشوهٍ يمكن أن يصيب أي دولة، وأساس الرؤية يقوم على تأسيس بيئة استثمارية نظيفة يتم تأمينها من أي خلل. وقد فعلت الدولة ذلك ومستمرة فيه.

هذه المرحلة التنموية أثبتت أن الدولة يمكنها أن ترسم حداثتها وتحافظ على قيمها من دون أنماطٍ مقلّدة، فالدول تبنى مع الناس، ونجاحات دول الخليج تحطم صنم الكذبة التاريخية التي قيلت حول الجمهوريات والديمقراطيات، فلكل مجتمع نموذجه ودولته ونمط حكمه. لقد تجلّدت هذه الأرض بناسها لكل الشامتين، فلم تتضعضع لريب الدهر، بل وأثمر غرسها مورقاً بوادٍ غير ذي زرع.