إياد أبو شقرا

اختارت بعضُ وسائل الإعلام كلمة «زلزال» لوصف الانتصار الكاسح لحزب المحافظين في الانتخابات البريطانية الأخيرة. وكمراقب للسياسة البريطانية على الأرض منذ 41 سنة، لا أجد انتخابات لها وقعها الموازي سوى تلك التي أجريت قبل 40 سنة في ربيع 1979.
يومذاك وصلت مارغريت ثاتشر إلى السلطة على أنقاض حزب عمالي منهك منقسم على ذاته، تحت نقابات عمالية ترفض التطور مع الزمن وتحاول التمسك بآخر مكتسبات فترة ما بعد الحرب تحت تبرير التبشير بشعارات وأحلام عمرها أكثر من قرن من الزمن.

واستفادت ثاتشر، ومن كان خلف «ثورتها» اليمينية، كما استفاد بالأمس بوريس جونسون والذين هم خلفه، من عاملين أساسيين؛
العامل الأول، تكنولوجي اقتصادي، هو التطور التكنولوجي المتسارع الذي دخل في حرب مفتوحة مع اليد العاملة، وبالأخص، العمالة غير الماهرة.
العامل الثاني، سياسي يتمثل بالمناخ السياسي الدولي وتعريف دور بريطانيا على خريطة الساسة الدولية خلال السنوات الأخيرة من «الحرب الباردة» والعد العكسي لانهيار الاتحاد السوفياتي و«حلف وارسو»، وتلاشي تأثير بريطانيا داخل منظمة «الكومنولث»، وصعود «الريغانية» في الولايات المتحدة.

بالأمس، اكتمل انهيار كتلة أصوات اليسار التقليدي القديم في شمال إنجلترا ومعاقل الصناعة في وسطها ووديان المناجم في ويلز. وكذلك انحسر بفعل صعود القوميين الاسكوتلنديين، وجود حزب العمال في اسكوتلندا التي أعطت بريطانيا أول رؤساء الحكومات العماليين رامزي ماكدونالد، وأحد كبار مؤسسي الحزب وقادة اليسار التاريخيين كير هاردي.
وكما حصل قبل 4 عقود، كان للتغيير الاقتصادي الذي حمله التطور التكنولوجي دور سياسي حاسم. ولكن في حين لعبت ثاتشر على شق نقابات العمال، بتشجيعها نقابات الصناعات الهندسية والكهربائية، مقابل ضرب نقابات عمال النقل والمناجم والوظائف العامة، وجد العامل اليدوي العادي نفسه أمام طريق مسدودة، بعدما ضرب غزو الكومبيوتر والإنترنت، بكل كل ما يتصل به من مبتكرات، ناهيك من دخول الروبوت العمليات التصنيعية، وظائف العمالة غير الماهرة في مقتل.
كذلك، جاءت ظاهرة العولمة، ومن أبرز مظاهرها في بريطانيا، ظاهرتان؛ الأولى تدفّق العمالة الأجنبية الرخيصة من دول أوروبا الشرقية في أعقاب إسقاط الحدود والحواجز داخل الاتحاد الأوروبي، والثانية نقل كثير من الشركات الكبرى وظائفها إلى دول أخرى ذات معدلات أجور متدنية في آسيا وأفريقيا.

هنا ثمة مفارقة مضحكة مبكية. فالانتصار التاريخي الذي حققه «تحالف اليمين» الأنجلو أميركي بقيادة رونالد ريغان، تدعمه مارغريت ثاتشر، على الاتحاد السوفياتي... أدَّى إلى انهيار منظومة الكتلة السوفياتية. وأيضاً حرص ريغان وثاتشر على تخفيف التأثير الألماني الفرنسي داخل أي كيان أوروبي موحّد، دفع بريطانيا للعمل على «تسريع» ضم دول أوروبا الشرقية (المبتعدة عن موسكو) إلى عضوية الأسرة. ومعلوم أن ثاتشر، التي هي في الأساس، معادية للتقارب الأوروبي، كانت تكرّر في كل مناسبة رفضها في أي بحث في أي تكامل أوروبي يمكن أن يؤسس لـ«ولايات متحدة أوروبية» تقودها الدول المؤسِّسة التي هي ألمانيا وفرنسا ودول «البينيلوكس» (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) وإيطاليا.
وحقاً، نجحت الخطة، واتسعت أسرة ما بات يُعرف بـ«الاتحاد الأوروبي» على حساب قوة الدول المؤسِّسة. وفي المقابل، أكملت ثاتشر انتصارها الابتزازي بممارستها «الفيتو» المزدوج على العملة الأوروبية الموحّدة «اليورو» وعلى «اتفاقية شينغن» القاضية بتأشيرة الدخول الموحّدة، فارضة استثناء بريطانيا منهما.
هذه خلفية من الضروري تذكرها لدى مناقشة ما أدَّى إلى «الزلزال» الانتخابي الأخير في بريطانيا. كذلك من الضروري أن أذكر أن تداول السلطة وتبدل الأولويات المطلبية من أساسيات الممارسة السياسية في الدول الديمقراطية.
وكما ازدهرت «الريغانية» في أميركا، ثم أخذ بريقها يخبو، بل يتولى السلطة رئيسان ديمقراطيان ليبراليان، هما بيل كلينتون وباراك أوباما، حكم كل منهما لمدة 8 سنوات، حتى استعاد اليمين الشعبوي المتطرف «البيت الأبيض» عبر دونالد ترمب... عاشت بريطانيا تجربة مشابهة.
في بريطانياً أيضاً، تراجع بمرور السنوات بريق راديكالية اليمين الثاتشري. بل اضطر حزب المحافظين نفسه لإسقاط ثاتشر من أجل امتصاص نقمة الشارع الذي ملَّ ممارساتها الدوغماتية، وسقط لفترة غير قصيرة حكم اليمين عندما قُيّض لحزب العمال قادة براغماتيون اتعظوا من هزائم راديكاليّيهم، وأعادوا الحزب تدريجياً إلى بديل سياسي واقعي يمثل يمين الوسط.
غير أن ما حصل في السنوات التسع الأخيرة كان تغيراً ينمُّ عن اللامسؤولية وضعف الذاكرة معاً. وبعد فترة من الصراع على حلبة الوسط بين المحافظين المعتدلين (بقيادة جون ميغر ثم ديفيد كاميرون فتيريزا ماي) والعمال المعتدلين (بقيادة توني بلير وغوردون براون)، ثم حكومة ائتلافية (بين المحافظين والديمقراطيين الأحرار)، هزّت الحياة السياسية البريطانية الحملة الشعبوية للخروج من «الاتحاد الأوروبي»، التي فاقمتها أزمة اللجوء إلى أوروبا.
ارتفاع مطالبات القوى الشعبوية، بل العنصرية، أقلق المحافظين، فتعهد رئيس الحكومة المحافظ ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء على الخروج، من دون أن يكون مضطراً لذلك. وبالنتيجة صوّت البريطانيون لمصلحة الخروج بفارق غير كبير. وكان واضحاً أن معاقل عمالية تقليدياً كانت مع الخروج.
في هذه الأثناء، كانت الكتلة النيابية لحزب العمال، قد فرّطت بتغافلها في زمام المبادرة في موضوع اختيار زعيم الحزب. وهكذا، سمحت للنقابات والحركيين الراديكاليين بانتخاب جيريمي كوربين، الحركي اليساري المتطرف، زعيماً.
التصويت لصالح الخروج من أوروبا في جو من الروح الانعزالية وكراهية الأجانب من ناحية، ووقوف الغالبية في العاصمة لندن، ناهيك من إقليمي اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية، لصالح البقاء، كان لا بد أن يولّد استقطاباً حاداً، وانقسامات ومزايدات شعبوية خطيرة في الشارع المحافظ، وارتباكاً وعودة إلى المكابرة الغبية في الشارع العمالي.
في هذا الجو أجريت الانتخابات، وحقّق المحافظون - مع أنهم لم يرفعوا كثيراً من نسبة ما حصلوا عليه من أصوات - فوزاً ما، كانوا يحلمون به. ومُني العمال بهزيمة هي أحد الأسوأ في تاريخهم. أيضاً حصد القوميون الاسكوتلنديون 48 مقعداً من أصل مقاعد اسكوتلندا الـ59. وفوراً أعلنوا إصرارهم على إجراء استفتاء ثانٍ يأملون منه أن يحقق لهم هدف الاستقلال عن بريطانيا...
كيف ستكون السنوات الخمس المقبلة من حكم بوريس جونسون؟
وكيف سينتهي صخب الشعبوية؟
هل تبقى بريطانيا موحّدة؟ ... أم يلي الزلزال «تسونامي» أكثر تدميراً وفظاعة؟!