&تركي الدخيل&&

ثمة نوع من أنواع أسئلة الامتحانات، يقوم على سؤال وعدة إجابات، إحداها صحيح، والباقي خطأ. لا مجال للفذلكة، والشرح، الذي يخضع للتقدير. إما أن تختار الصحيح، أو فقدت علامات السؤال كلها، لأنك لم تختر الصحيح. الإبداع ليس معادلات رياضية، إما أن يكون الجواب صحيحاً، وإلا فهو خطأ! مبدعنا اليوم، رغم، سباحته في بحور الجمال، والتميز، إلا أنه جمع بين فضاءات الإبداع، والصحيح الذي لا خيار غيره إلا الخطأ. إنه الشاعر السعودي المبدع، الأستاذ جاسم بن محمد الصحيح، الذي ولد بمدينة الجفر شرقي السعودية، في 1964. المبدع المحلق في سماوات العبارة الفائقة الجمال، بدأ الصواب، من اسم عائلته، ثم تبعه، بمهنته العملية، فهو مهندس ميكانيكي في شركة أرامكو السعودية، والهندسة، كالرياضيات، تقع بين صحيح وخطأ! حلّق جاسم، في سماء الشعر العربي المعاصر، وما أن جاوز، ابن الأحساء، نصف قرنٍ من العمر والحب، حتى دعا معشوقته، قائلاً:

ما وراءَ (الخمسينَ) إلَّا رُفاتُ* فتعالي لكيْ تَجيءَ الحياةُ

منذ ولادته، استنشق جاسم عبير بساتين الأحساء، في الواحة التي اشتهرت بنخيلها الباسقة، وعيون مائها المتدفقة، وشعرائها ومثقفيها الذين شكّلوا حركة أدبية، أثرت الجو العافي السعودية، والمنطقة كلها. البيئة الأحسائية التي كانت تكثر فيها الرحلات التجارية والزيارات لجهات الجزيرة العربية، ودول الخليج، والعراق، انعكس أثرها مبكراً على الصحيح الذي شب على سماع الشعر في محافل مدينته، والقرى المجاورة، في المجالس والندوات، تحت ظلال النخيل، وبين مياه السواقي. مثل معظم أبناء الأحساء، تأثر جاسم بالشعر العراقي، الفصيح منه والشعبي. حيث كانت البيئة الأحسائية، تكتبه، وتنطق به، خصوصاً في مجالس القراءة، أو حتى داخل البيوتات التي شهدت زيجات وعلاقات نسب وأواصر صداقة وقربى مع أسر بلاد الرافدين. ومن الأسماء التي طبعت أثراً في تكوين شاعرنا الصحيح، وبصمة على ذائقته، الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، والشاعر السيد مصطفى جمال الدين، من الأسماء المهمة التي أثرت في ذائقة جاسم وبخاصة في بداياته الأولى. وهو تأثرٌ صبغَ جيلَ الشاعر، سواء في الأحساء، أو في بقية المنطقة الشرقية. الشاعر السعودي الكبير، الأستاذ محمد العلي، أحد آباء الحداثة في السعودية، وهو ابن الأحساء الذي عاش سنوات بالعراق، كان شخصية رئيسية من روافد التكوين الشعري لجاسم الصحيح، وهو تأثيرٌ امتد حتى تجارب الصحيح الأخيرة، ولم يكن محدوداً بفترة البدايات وحسب. محمد العلي الذي كان يطلق عليه في العراق اسم «الهجري»، لم يكن أثره على جاسم شعرياً فحسب، بل امتد ليشكل حالة تشبه الأبوة الفكرية. جلسات الصحيح ونقاشاته مع العلي، رسمت تصوراً مختلفاً لدى شاعرنا، يبدأ بأساليب الكتابة ويمر بمفاهيم الثقافة، إلى أن يصل إلى الأسئلة الكونية الأوسع. يحضر التكوين الديني بقوة في نصوص جاسم الصحيح، ففي قصيدته، «حتى

لا يميل الكوكب»، نجده يخاطب معشوقته، قائلاً:
كلُّ النساء أحاديثٌ بلا سَنَدٍ وأنتِ أنتِ حديثٌ لابنِ عبَّاسِ
تلمس في نصوص جاسم الصحيح، التمازج المتجانس بين المفردات الدينية، وذخيرة عبارات الغزل التي تذوب رقة، وتترقرق عاطفة، فازداد النص جمالاً وابتهالاً وجلالاً:
ها أنا مفردٌ كركعةِ وِتْرٍ فاشفعيني لكيْ تَتِمَّ الصلاةُ
قصائد جاسم الصحيح التي انطلقت من مخزونٍ ديني، مثل قصائده في الإمام الحسين، كانت شبيهة بالتفكير خارج الصندوق، ففيما يركز الآخرون على آلام مقتل الحسين، نجد الصحيح ينتصر للشعر، ويقدم الحسين في حُللٍ من «الفرح»، و«الجمال»، خارجاً عن سائد تناوله في سياق العزاء، فيصفه بقوله:
لكَ قامةُ الأفلاكِ قامَةْ والشمسُ كلُّ الشمسِ هامَةْ
لجاسم الصحيح، في كل عرسٍ قرص، ومن ذلك حضوره الفاعل في المناسبات الوطنية، وقصيدته: «بصمة التوحيد»، شاهدة على الروح الوطنية التي جعلها تنساب بسلاسةِ جمالِ اللغة:
وطن عليه يعرش القرآن* فظلاله الآيات والتبيان
حفرته فينا الذكريات فحينما* ننسى يُذكرنا به النسيان
الوطن في شعر الصحيح، ليس كياناً جامداً، أو أرضاً لها شكل جغرافي، فحسب، بل هو كائن حي، قلبه النابض، الإنسان:
وتفحص الأجداد حمض ترابه* فرأوا بأن ترابه إنسان
وفي مهرجان الجنادرية، سكب جاسم الصحيح للحضور، في كأس الوطن مجداً، وسقاهم وطنية عذبة، يوم قال:
يا نجدُ عادَ لليلُكِ السماُر* فدعي الرؤوسَ على هواكِ تدارُ
قومي نُدَوِّنُ سيرةَ السيفِ الذي* صلى على شفراتِه الأحرارُ

برع جاسم الصحيح، في الجمع بين روحانية التصوف ومادية الجسد، يظهر ذلك في ديوانه: «رقصة عرفانية»، وهو جمع بين متناقضين في نظر كثيرين، إلا أن الصحيح استطاع أن يقدم رؤية متسقة، قوماها: العاشق المأخوذ بروح وجمال حبيبته، المتجرد نحو العشق الكوني الأكبر.
ديوانه «كي لا يميل الكوكب»، وديوانه «أولمبياد الجسد»، يقدمان أيضاً صورة عن جاسم الصحيح، حيث الحضور المشرف في نصوصه، للمرأة والعرفان.
ثمة مزيج متجانس آخر، بين تجرد المتصوف، ولهفة العاشق، تلمسه في بيته الشعري:
إذا انتشَيتُكِ فَرَّتْ روحُ زَنبَقَةٍ*من قبضةِ الحَقْلِ وانحلَّتْ بأنفاسي

يعتبر جاسم الصحيح، أن لدى الشاعر «رؤية تجاه الحياة»، إلا أنه في الوقت ذاته، يرى أن على الشاعر ألا يتناول القضايا الحياتية اليومية، في نصوصه، بطريقة مباشرة أو سياسية، بشكل يقود لابتذالها، أو ابتذال الشعر، وإنما يطرقها من خلال مقاربة جمالية فنية، في الدرجة الأولى.

فاز جاسم الصحيح بالعديد من الجوائز داخل السعودية وخارجها، ويحذر الشعراء الجدد من اللهاث خلف المسابقات، معتبراً «الجوائز إذا لم ينتبه لها الشاعر، تتحول إلى مصيدة باتجاه الانحدار». يعتبر جاسم نفسه، منتمياً إلى النص الشعري العمودي، إلا أنه في الوقت ذاته، يكتب شعر «التفعيلة»، ولم يقتصر على قصيدة الكلاسيكية، ذات الشطر والعجز، ربما ليثبت أنه أبعد الناس عن العجز، عندما يرتبط الموضوع بالإبداع. وهو في الوقت ذاته، لا يتخذ موقفاً رافضاً لقصيدة النثر، وإن لم يكتبها. وجود جاسم الصحيح في وسط يموج بالحراك الشعري، مع كتاب وأدباء أحسائيين، مثل: محمد الحرز، إبراهيم الحسين، عبد الله السفر، جعفر عمران، وغيرهم، خَلّقَهُ، في وسطٍ، يُطَوِّر تجربته، ويصهرها، حتى يميز الذهب، عبر قراءات نقدية، ونقاشات جدية، وسجالات فكرية ثرية، راكمت نصه الباذخ.
موضوعات نصوص جاسم الصحيح الرئيسية كثيرة، أبرزها: الوطن، العشق، العرفان، المحبوبة، والتوق إلى تجربة روحية، وجسدية لا تنتهي، وهو كما آباء الشعر العربي، على مر القرون، يحرض على الشجاعة، ويحذر من الجُبن، لكن شجاعته وضدها، من جديد، خارج الصندوق، يقول:
العشقُ أوَّلُ ما يكونُ شجاعةٌ * ما خاضَ شوطَ العاشقينَ جبانُ

&

&