بكر عويضة

مشكورٌ سعي الأمم المتحدة النبيل، في شأن التنبيه المتواصل لخطورة أوضاع الناس المعيشية في قطاع غزة. ضمن هذا السياق، تضمن تقرير للمنظمة الدولية صادر عام 2012 التحذير من وصول سوء الوضع الاقتصادي، وتردي حال المرافق العامة، درجة يصبح القطاع معها غير صالح للعيش بحلول عام 2020. صحيفة «الأوبزيرفر» البريطانية خصصت في عددها الصادر الأحد الماضي حيزاً لافتاً لتقرير تجاوز ألفاً وثلاثمائة كلمة حول الموضوع، كتبه موفدها دونالد ماكنتاير. مشكوران أيضاً. أعود لاحقاً لما أورد الصحافي ماكنتاير في تقريره الممتاز. جدير، أولاً، التساؤل عما إذا كان الطرف المسؤول عن وصول سوء أوضاع غزة إلى ذلك الحد المخيف، ينحصر في عدوان حكام إسرائيل المستمر ضد ما يقارب مليوني إنسان، خصوصاً فيما يتعلق بالحصار المضروب على القطاع، براً وجواً وبحراً؟
بالتأكيد، ليس ينكر سوى الظالم للحق، مدى ما ألحق الظلم المنهجي الممارس من جانب حكام بني إسرائيل من الأذى، بحق شعب فلسطين عموماً، وليس في غزة وحدها، طوال سنوات تسبق قيام دولة الحلم الصهيوني، وتواصلت خلال عقود ما بعد النكبة، بدأت بإنكار وجود الشعب الفلسطيني أساساً، وتواصلت عدواناً تلو عدوان، وصولاً إلى التنصل من كل محاولات سلام جادة أخلصت في السعي إليها دول كبرى، وأسهمت فيها عواصم القرار العربي المؤثرة، فقط لينتهي مصيرها إلى سلة مهملات حكام تل أبيب، أمام تعنت شروط ليست تتوقف أبداً، بل إن كل شرط يُلبى من الجانب العربي، سرعان ما يلد شرطاً لم يخطر بالبال من قبل. لماذا؟ الإجابة الواضحة لكل ذي بصيرة، هي أن دهاقنة القائمين على فكرة دولة إسرائيل ذاتها، يرون الخطر عليها في السلام الحقيقي مع جيرانها. تلك رؤية عقائدية ليست سراً، وهي تخص أولئك الدهاقنة المخلصين لنصوص بروتوكولات حكماء صهيون وحدهم، ومن غير العدل، ولا من البحث الموضوعي تحديداً، تعميمها على الإسرائيليين كافة، ذلك أن كُثراً في أوساط هؤلاء، ومن مختلف الأجيال والطوائف والأعراق، كانوا، ومنهم من لا يزال، يتمنون بالفعل إنجاز سلام عادل يوفر أمام الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومعهما شعوب كل المنطقة، فرص طي صفحات الماضي المؤلم والانطلاق نحو غد أفضل.
إنما، هل أن ما سبق يغسل أيدي الآخرين، أي غير دهاقنة المشروع الصهيوني، من المسؤولية إزاء ما انتهى إليه سوء أوضاع الناس في قطاع غزة؟ بالتأكيد، أيضاً، كلا. بل إن أسوأ ما يُحزن، وربما يقهر حتى القلب المتحجّر، أن المسؤولية تحق على أكثر من طرف فلسطيني بين قيادات الفصائل على اختلاف عقائدها وتنوّع ولاءاتها. معروف ما يتردد في مجالس بسطاء الفلسطينيين، سواء في مخيمات المنافي، أو داخل الوطن، وخلاصته هي إذا كان الفلسطيني قد ابتُلي بعدو ماكر، عنيد، ماهر، يعرف أين وكيف تلتهم أكتاف كبار ساسة العالم لأجل صالح مشروعه، فقد ابتُلي أيضاً بسياسيين وقادة يتولون أمره، لم يتردد أغلبهم في تقديم ولاءاتهم وانتماءات أحزابهم، وفساد تصرفاتهم الذاتية، على الصالح الفلسطيني، وأحياناً، بلا أي خجل، باسم القضية الأنبل، والأحق، والأعدل. فكيف إذنْ، إذا الحال هكذا، يُستَغرب تخوّف الأمم المتحدة من وصول سوء أوضاع قطاع غزة إلى حد ألا يعود صالحاً للعيش فيه؟

مع ذلك، ومع التقدير الواجب لاهتمام المنظمة الدولية، وأيضاً لتقرير صحيفة «الأوبزيرفر» بشأنه، فإن أول ما سوف يقفز إلى ذهن كل من يعرف مدى اعتزاز أهل قطاع غزة بالوضع المتميز له، تاريخياً وجغرافياً وتراثياً وثقافياً، أن تلك القطعة من أرض فلسطين سوف

تظل صالحة لأن يواصل أهلها العيش فيها، مهما تردت أوضاعها، ولو إلى ما هو أسوأ من الحضيض. نعم، قرأت بين سطور ما كتب دونالد ماكنتاير، عن أوجاع شبان وشابات يتوقون للهجرة بحثاً عن حياة أفضل. أمر مفهوم، لكن ما ليس يراودني شك فيه، هو أن ذلك كله كلام وجع عابر. هن وهم يعرفون جيداً أنهم حتى لو غادروا غزة، مؤقتاً، فهي لن تغادرهم أبداً. فاصبري أيتها الطبيبة الشابة سارة السقا، وكل من هم وهن في مثل معاناتك. ذات يوم سوف يطل ضوء أمل، وسوف تُسأل قيادات فلسطينية عدة، عما تسببت فيه سياساتها فيما آلت إليه أوضاعكم، وأوضاع كل القطاع، بل وما انتهى إليه الاهتمام الدولي بمجمل قضية فلسطين ذاتها من تراجع.