عبدالله السعدون

هدف لجنة «المصفاة الثقافية» هو معرفة تأثير هذا الموروث سواء كان كورياً أو يابانياً أو أميركياً على الفرد والمجتمع ودوره في صناعة المستقبل وتنمية الإنتاج والابتكار ثم إدخاله في جميع مراحل التعليم لنقل كوريا إلى مصاف الدول المتقدمة

هذا فصل من كتاب الدكتور علي بن راشد النعيمي (الدولة الوطنية) وتحت هذا العنوان يذكر المؤلف تجربة كوريا الجنوبية الرائدة والتي انتقلت خلال عقدين من دولة فقيرة ومثقلة بالكثير من التحديات بعد خروجها من حرب مدمرة قتل خلالها أكثر من خمسة ملايين شخص ودمرت بنيتها التحتية وأثقلت بالديون إلى دولة متقدمة ببنية تحتية قوية واقتصاد مزدهر يعتمد على التصنيع والتصدير.

ويشير المؤلف إلى إحدى الخطوات التي اتخذها الجنرال «بارك» للانطلاق نحو المستقبل هو تشكيل لجنة من أفضل المفكرين والمثقفين الكوريين أطلق عليها لجنة «المصفاة الثقافية» لمراجعة ودراسة الموروث الثقافي الكوري الذي كونته ثلاث مؤثرات هي الديانة البوذية وثقافة المستعمر الياباني، وثقافة المستعمر الأميركي وما جلبه من ديانة مسيحية وقيم غربية، على ألا تكون الدراسة لغرض المدح أو الذم أو أن تشغل اللجنة وقتها في كيل التهم للمستعمر الياباني أو الأميركي أو الموروث المحلي ولا حتى وصم مفكريهم السابقين بشتى التهم كالجهل والانغلاق، بل ناقشوا الأفكار وما الحكمة والفائدة من هذه الأفكار ومدى ملاءمتها لبناء الحاضر والمستقبل، كانت «الحكمة» كما أشار المؤلف هي جوهر اهتمامهم وغايتهم وليس الفكرة ذاتها.

كان هدف لجنة «المصفاة الثقافية» هو معرفة تأثير هذا الموروث سواء كان كورياً أو يابانياً أو أميركياً على الفرد والمجتمع ودوره في صناعة المستقبل وتنمية الإنتاج والابتكار ثم إدخاله في جميع مراحل التعليم لنقل كوريا إلى مصاف الدول المتقدمة، وهنا قسموا الأفكار كما أشار المؤلف إلى ثلاث فئات:

الأولى: القيم والأفكار الوظيفية التي تسهم في بناء إنسان عصري محافظ على هويته قادر على التعامل مع الحضارة الحديثة، ومتسامح ومنفتح على الآخر ولديه القدرة على التعلم والابتكار والإنتاج، متفاعل مع مجتمعه بإيجابية ومحافظ على البيئة من حوله.

الثانية: القيم والأفكار غير الوظيفية التي تعيق الإنسان عن تحقيق ما ذكر في الفقرة الأولى فتدفعه إلى السلبية والانغلاق والتواكل والتعصب ورفض الآخر وعدم التعاطي مع الحاضر بحجة المحافظة على الهوية والذات، وكل أفكار تنتج شخصاً معيقاً للتقدم والتنمية، أو مدمراَ لها في أسوأ الأحوال.

والثالثة: القيم والأفكار المختلطة والتي لها فوائد ومضار فالتكافل الاجتماعي مهم ومفيد لترابط المجتمع وتعاونه واحترام أعضائه بعضهم بعضاً، لكنه قد يقود إلى الكسل والتواكل وعدم الابتكار والمنافسة.

وكان القرار الكوري هو دمج القيم والأفكار الوظيفية في مناهج التعليم في مختلف مراجلها، وفي منتجات الروافد الثقافية كالسينما والمسرح وباقي الفنون، وفي الإعلام والأدب، أما القيم غير الوظيفية فيتم تجاهلها حتى تزول تلقائياً، أما القيم المختلطة فيركز على النواحي الإيجابية وتجاهل السلبية وهكذا تم تطعيم المنهج التعليمي ومن ثم انطلاق النهضة الكورية.

تجربة كوريا التي أوردها المؤلف جديرة بالدراسة والاستفادة منها ذلك أن العالم العربي والإسلامي في حيرة من أمره ودارت معارك كثيرة بين القديم والحديث وبين دعاة التحديث ودعاة المحافظة على التراث، وبين نقد رموزه أو تقديسهم وأصبح التراث مرتبطاً بالدين، لذا يعيش العالم العربي والإسلامي في معارك مستمرة منذ المحاولات المبكرة للنهضة العربية وحتى وقتنا الحاضر.

التجربة الكورية تعلمنا أن التراث موجود للاستفادة منه بحكمة وتعقل فلا ننتقده ونتخلى عنه ولا نتمسك به ونقدسه لأن من فكر فيه وأنتجه وضعه لعصره الذي عاش فيه وأبدع فيما يناسب ظروفه، لكننا غير ملزمين بأخذه كاملاً أو رفضه جملة وتفصيلاً، بل نأخذ ما يناسب زماننا الذي نعيش فيه وما يزيدنا قوة، وما نتركه نتركه باحترام وتقدير ودعاء لمن اجتهد وأنتجه.

وليست كوريا هي وحدها من قام بهذه المراجعة فقبلها قامت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية بتجربة شبيهة للتجربة الكورية وبناء عليه وضعت دستورها وصاغت ثقافتها التي تخلت فيها عن الروح العسكرية العدائية لجيرانها وأوكلت كثيراً من مهام وصلاحيات الإمبراطور للبرلمان الياباني ثم انطلقت في التصنيع والتصدير مع التركيز على الجودة لتصبح جزءاً من تراثها فغزت ببضائعها الدولة التي غزتها بجيوشها وقنابلها النووية. ومثلها دولة سنغافورة التي حذت حذوها بقيادة باني نهضتها الحديثة «لي كوان يو» لتصبح واحدة من أغنى الدول وأكثرها جمالاً واستقراراً.

العالم العربي ليس بحاجة إلى إعادة اختراع العجلة فالنماذج الناجحة موجودة على مستوى العالم والحكمة ضالة المؤمن، وكل تجربة ناجحة يمكن دراستها وتبنيها وتوطينها بعد تعديلها بما يناسب ظروف كل دولة وثقافتها.