عبد الإله بلقزيز

ليستِ المعرفةُ ممّا يُمكن لسلطةٍ، في الدّولة الحديثة، أن تستغني عنه أو تترتّد في توظيفه؛ فهي عندها لا تكون - ولا ينبغي لها أن تكون - بمنزلة النّوافل والكماليّات لأنّها، بكلّ بساطة، من عُدّة اشتغال السّلطة ومن مواردها الحيويّة. وكما لا تملك سلطةٌ أن تدير أمور الحياة العامّة من دون ترسانة قوانين منظِّمة؛ ولا أن توفِّر الخِدْمات العامّة من دون موارد ماليّة؛ ولا أن تحفظ الأمن الاجتماعيّ من دون أجهزةٍ أمنيّة؛ ولا أن تبْسُط سيادة الدّولة على أراضيها وحدودها وأجوائها ومياهها من دون جيش؛ كذلك لا يُمكنها أن تخطّط أيّ استراتيجيّة في ميادين التّنميّة والتّعليم والبحث العلميّ والأمن والدّفاع والسّياسة الخارجيّة، وسوى هذه من المجالات، من دون المعرفة.

المعرفة وحدها تقدّم للدّولة الوطنيّة بُوصلتَها التي بها تترشّد عمليّةُ الإنجاز. ومن دونها تَخبّ السّياسة في بيداء العمى أو التّجريبيّة، فتسقط في الأخطاء وقد تقود نفسَها إلى المهالك. لذلك ما كان صدفةً أنّ كبرى مؤسّسات الدّولة والوزارات، في الدّول الكبرى، تُحْدث لنفسها معاهدَ ومراكزَ دراساتٍ خاصّة بها؛ تقدّم لها الخبرةَ العلميّة والبيانات والدّراسات التي منها تشتقّ سياساتها وبرامج عملها، وتعمل في ضوء تقديراتها ونتائجها وتوصيّاتها. كما ليس من الصّدفة أن يشكّل الخبراء المستشارون أو مكاتب الخبرة قوّةً يرتفع الطّلبُ عليها في مؤسّسات دول الغرب، السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة والأمنيّة... إلخ؛ لأنّ قرار المؤسّسة - أيِّ مؤسّسة- يقْوى ويكون أفْعَل بمقدار ما يستند إلى مادّةٍ رصينةٍ من المعارف. ولأنّ المورد هذا (المعرفة) حيويّ لعمل السّلطة، تضطرّ هذه - في حال «انعدامه» أو غياب مؤسّساته في البلد- إلى استيراده من خارج. غير أنّ كلفة ذلك على المال العامّ تكون أبهظ ممّا لو جرى اعتماد الخبرة العلميّة الوطنيّة، ووُفِّرت لها الإمكانات والأطر المناسبة التي تتيح لها تقديم رأسمالها المعرفيّ.
ما أغنانا، في المعْرض هذا، عن القول إنّ أسوأ حالٍ من أحوال العلاقة بين المعرفة والسّلطة هي الحال التي يقع فيها التّجافي والإنكار المتبادَل بينهما، لهذا السّبب أو لذاك. وهي حالٌ تخْسَر فيها السّلطة موردها بمقدار ما تخسَر فيها المعرفةُ ميدانَ اجتماعيَّتها (أو مجتمعيّتها)؛ إذْ لمّا كان هدفُ كلِّ سلطةٍ، في دولةٍ وطنيّة مّا، أن تُحْسِن أداء مهمّاتها في إدارة الشّؤون العامّة، كان عليها- بالتّبِعة- أن تستحوذ الأدوات والموارد التي تُسعفها في تحسين أدائها في إدارة الشّؤون تلك، وأولاها حيازة المورد المعرفيّ. ولمّا كان من أهداف المعرفة ألّا تتوقّف عند حدود تحصيل المعارف، فقط، بل تحويل تلك المعارف إلى حقائقَ ماديّة واجتماعيّة، كانت السّلطة، حكماً، هي رهانُها المعوَّل عليه قصد التّمكين لمثل ذلك التّحويل من طريق سنّ السّياسات وإنفاذها.
ولقد تكون حالةُ التّجافيّ بين المعرفة والسّلطة ثمرةَ سوء تقديرٍ للمعرفة من قِبَل أهل السّلطة، مثلما يمكنها أن تكون نتيجة سوء تقديرٍ للسّلطة من جانب أهل المعرفة؛ وبيانُ ذلك كالتّالي:

قد يَضيق صدرُ سلطةٍ مّا، في بلدٍ مّا، بالمثقّفين والباحثين والأكاديميّين والعلماء، أو تستهين برأسمالهم المعرفيّ فلا تقيم له اعتباراً، أو تحسبهم دون المستثمرين ورجال المال والأعمال، مثلاً،أهمّيَةً فتُزري بمكانتهم ومنزلتهم في المرتبة الاجتماعيّة وفي النّظام السّياسيّ...؛ فتكون النّتيجة أنّ أهْلَها والماسكين بأزِمَّتها يُضيعون على أنفسهم - بسوء تقديرهم - فرصة الاستفادة من جزيل عوائد ذلك الرّأسمال المعرفيّ الذي فرّطوا به. وما أكثر الدّول التي حرمت السّلطةُ فيها نفسَها والبلدَ من الاستثمار بثروتها المعرفيّة لمجرّد الجَهْل بعظيم فائدتها؛ والمعظمُ من دول الجنوب ودول العالمينِ العربيّ والإسلاميّ منها!.

وقد يضيق صدْرُ أهل المعرفة بالسّلطة، في بلدٍ مّا، حين يشعرون باستبعادها لهم والزّراية ببضاعتهم العلميّة؛ كما قد يتولّد لديهم شعورٌ بالبَرَم تجاهها؛ نتيجة اعتقادٍ لديهم بأنّ على مالك المعرفة أن يستقلّ برأسماله المعرفيّ، وأن يبتعد عن السّلطة، أو ألّا يسمح لها بتسخير معارفه في عملها. والأغلب ممّن يسكنُهم هذا الوعي هم من الذين تأثّروا بالفكر الفرنسيّ المعاصر، ودعوات مفكّريه وفلاسفته إلى استقلاليّة المثقّف والمعرفة عن السّلطة؛ من أمثال جان بول سارتر وميشيل فوكو...؛ فهؤلاء حملوا لواء فكرة انفصال الرّأسمال المعرفيّ عن أي سلطةٍ: لا سلطة الدّولة فحسب، بل السّلطة الاجتماعيّة والسّلطة الحزبيّة أيضاً.