محمد الشاذلي

لم نصنع التوتر الذي تسببه التحركات التركية أخيرًا في شرق المتوسط حتى شمال إفريقيا، لكن ينبغي أن نتعاطى معه بوعي وترقب لكل الاحتمالات.. وليس هذا نداءً للحرب، إنما للتوصل إلى سبل مواجهة لحظة التحدي التي نعيشها الآن، أما الافتقار إلى الرغبة أو القدرة على صياغة موقف متزن فسيصعب علينا المواجهة السياسية والإعلامية والدبلوماسية وربما العسكرية.

يريد أردوغان استرداد النفوذ التركي في المتوسط، وأن يكون جزءًا من استثمارات الغاز ، وأن يكون رقمًا صعبًا في السياسة الدولية كزعيم للعالم السني، وأن يتفاوض على كل هذه الأمور تحت التهديد؛ لذلك أرسل قواته إلى ليبيا، ولذلك هي لحظة تحدٍ حقيقية لمصر وشعبها وقيادتها.

ومن دون شك فإن ما تمثله التلميحات المبطنة والتهديدات الصريحة الصادرة من أنقرة ترسم في الأفق نذر مواجهة يراها بوضوح الشارع المصري ، ومن مبادئ المواجهة ألا نذهب إليها منقسمين.

لقد التقطت أنقرة فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي الليبي، في فرصة سانحة لخراب شمال إفريقيا ونقل المنظمات الجهادية التي ترعاها وتعطيل المبادرات الاقتصادية الخاصة بالغاز والتجارة في المتوسط بأي ثمن، لأنها ليست جزءًا منها، وليبيا هي دولة الجوار الغربي لمصر، وهي أكثر دولة تعنينا كأمن قومي، بالإضافة إلى السودان قطعًا، ولنا حدود طويلة ومفتوحة معها، ولا نريد أن تكون هذه الحدود معابر للإرهابيين إلى الداخل المصري.

وتؤيد القاهرة الجيش الوطني الليبي والبرلمان الليبي المنتخب، وتحرص على تدعيم الدولة وصولاً إلى الحل السياسي للأزمة في ليبيا.. والقوات التي ترسلها أنقرة إلى طرابلس هي لدعم المجلس الرئاسي الذي تواجه ميليشياته الجيش الوطني الليبي.. فماذا ستفعل هذه القوات التركية سوى مزيد من نذر المواجهة المصرية - التركية؟!.

ومصر لم تسع يومًا إلى حرب واستطاعت تقديم نفسها إلى العالم في السنوات الماضية كدولة سلام واستقرار، وبلد ملائم للاستثمار والفرص الواعدة، وتعمل جاهدة على حل كل المشكلات من خلال الحوار وتمارس أقصى درجات ضبط النفس، وقد فعلت ذلك أخيرًا - ولا تزال - في أزمة سد النهضة، ومازالت القاهرة قانعة بأهمية العمل الدبلوماسي، وتجمع اليوم وزراء خارجية فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص في لقاء تنسيقي للتشاور حول التصعيد التركي بقرار إرسال قوات إلى لبيبا، في مخالفة صريحة لقرارات مجلس الأمن.

وبلورت القاهرة موقفًا عربيًا موحدًا تجاه التدخل التركي في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية لرفض التدخل الأجنبي في ليبيا.

وترتب عليه رفض تونسي وجزائري مهم للتدخل التركي، برغم زيارات أردوغان لتونس ووزير خارجيته شاويش أوغلو للجزائر.

وتقول تركيا إنها تدافع عن حكومة شرعية في طرابلس طلبت المساعدة، ولن نحارب شعب مصر.. بينما تركيا لا تعنيها الشرعية وفي التجربة السورية، فتحت الباب للمعارضين السوريين، ودربت الجيش الوطني الحر، وعبر حدودها تدفقت الجماعات الجهادية للإطاحة بالرئيس الشرعي بشار الأسد.

وكتب ياسين أقطاي مستشار أردوغان قبل أيام أن بلاده لا يمكن أن تحارب شعبًا مسلمًا، من دون أن يخجل مما يعرف أنه سيحدث لو سمح العالم بثغرة في ليبيا يدفع من خلالها "داعش" والنصرة والفتح وغيرها إلى الحدود المصرية؛ ليقوموا بعملياتهم ضد الشعب المصري.

وفي الحروب التي اندلعت في المنطقة أخيرًا كانت السيطرة على منابع الثروة وبسط النفوذ على رأس الأهداف، حيث جرى ذلك في العراق وفي سوريا وليبيا، وذلك من قبل أطراف الصراع المختلفة، وبدرجات ومقاييس مذهلة، فما الذي جمع تركيا وإيران وروسيا وحزب الله وأمريكا في سوريا؟

لم يكن هذا الخماسي تحالفًا دوليًا بأي شكل، إنما تحالف مصالح بدت متصارعة في البداية، ثم احتكمت إلى بريق الفرص والفوائد، لم تكن تركيا تترك سوريا أبدًا لتتحكم في طريق النفط والغاز وتطور صناعاتها النسجية ومقاصدها السياحية، وتكون في الوقت نفسه على علاقة وطيدة مع إيران.

ولم تكن روسيا تدع مياه المتوسط الدافئة للإمبراطور العثماني ويبقي القيصر بعيدًا في صقيع الكرملين، ولا ترغب إيران في أن تغادر دمشق، بينما هي فرصتها الأخيرة في الحديث عن "تحرير القدس" لتواصل أكاذيبها.

تلك الشبكة المريبة قطعت أوصال سوريا من كل جهة، حتى إن المبعوث الأممي الخاص جير بيدرسون عاد من سوريا ليقول إنه شاهد خمسة جيوش هناك.

لقد أبدع أردوغان قصة "الشرعية" الليبية، وهي ليست أكثر من رغبة عارمة في العودة إلى شمال إفريقيا من أجل النفوذ السياسي قبل أن يفقده نهائيًا.

قد كانت في طرابلس قوات عثمانية قبل مائة عام ضمن الإمبراطورية، وبعد أن يئست أنقرة من الالتحاق بالاتحاد الأوروبي استدارت جنوبًا لتعيد أمجادها الضائعة، وذلك بدءًا من تولي نجم الدين أربكان، وقد كان يريد ضم ليبيا إلى مجموعة الدول الإسلامية الثماني، وبعد إزاحة أربكان حاول تلاميذه - وعلى رأسهم أردوغان - العودة إلى ليبيا عن طريق القذافي، وفي مرحلة ما بعد القذافي كانت الوسيلة عناصر جماعة الإخوان المسلمين، ثم جاءت الفرصة مع فايز السراج، ويسهل من مهمتها الآن انشغال العالم بتطور الصراع الأمريكي - الإيراني.