علي العميم

المثال الثاني ادعاء أحمد الواصل أن خطاب داريوش شايغان يماثل الخطاب الفكري الملفق عند مفكري اليسار الإسلامي: علي شريعتي وعبد الكريم سروش ومحمد شبستري.
لم أطلع على شيء من أعمال عبد الكريم سروش ومحمد شبستري، ولا أعلم إن كان خطابهما الفكري ملفقاً أو غير ملفق، ولا أعلم إن كانا يساريين أو هما غير ذلك. ولكن في حدود معرفتي المحدودة البسيطة بهما أعرف أنهما مفكران دينيان متعلمنان بينما داريوش شايغان هو مفكر علماني ليس به حاجة إلى العلمنة والتعلمن.
ومما يجدر التنبيه إليه أن داريوش شايغان في كتابه (النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا) لم يتعرض لخطابهما بالنقد ولم يذكر اسميهما ألبتة. فلو كان تعرض لخطابهما بالنقد لكان مفهوماً مماثلة أحمد الواصل خطاب الناقد (شايغان) بخطاب المنقودين (سروش وشبستري)، لأن هذه هي طريقته في النقد التي نوهت عنها في خاتمة المقال السابق.
علي شريعتي هو الآخر مفكر ديني، رغم أن دراسته الجامعية ودراسته العليا هي دراسة غير دينية. ومشروعه النظري والعملي قائم على صيغة تلفيقية بين يسرنة الإسلام وأسلمة اليسار. يقول داريوش شايغان عنه مقارناً فكره بفكر جمال الدين الأفغاني: «إن حالة شريعتي (المتوفى سنة 1977) - أحد منظري الثورة الإسلامية (1979)_ ما هي إلا مثل من أبرز الأمثلة. فإلى حد ما، شريعتي أقل وضوحاً من جمال الدين. بين الرجلين مسافة مائة عام، ومع ذلك يخرج السلف الشهير من هذه المقارنة منتصراً. فجمال الدين يطرح أسئلة لاهبة لم تكذبها الأوضاع الراهنة حتى اليوم، وشريعتي يملك أجوبة جاهزة لكل الأسئلة، فإذا تكلم الأول عن روح علمية لا بدَّ من اكتسابها مهما كلف الأمر، فإن الثاني يضرب لنا المثل الصارخ عن رؤية ولا أضيق. وكل شيء يفسر عنده بعبارات ماركسية، ببنى تحتية وفوقية، برؤية ثنائية للتاريخ، وشلال من التماهيات المسلسلة. إن فكر علي شريعتي خليط من الجذرين، اللذين يتقيأ أحدهما الآخر».
المثال الثالث، قذف أحمد الواصل داريوش شايغان بأنه في قراءته لفكر القصيمي يمثل حثالات الماركسية إلخ...
هذه الشتيمة التي قذف أحمد داريوش شايغان بها أخذها من جملة للأخير نصها ما يلي: «ليست حداثة المرحلة الانتقادية التي تفكّر، تسأل، بل آخر بقايا حثالات نسخة ماركسية تقدم تفسيرات تبسيطية للأمور، على شكل باقات معارف حاصرة».
داريوش شايغان ليس لا ماركسياً فقط، بل هو معاد جداً للماركسية ولمحاولة الاستفادة من منهجها ومن آيديولوجيتها، وكان يشهّر بها من خلال نسخها وصيغها المبتذلة.
كل الشتائم التي كالها أحمد الواصل إلى داريوش شايغان حميّة لعبد الله القصيمي، كالها له مع أنه لم يفهم كلامه على وجهه الصحيح، ولم يعرف أين أخطأ وما هو خطؤه في حديثه العرضي عن القصيمي.
يقول داريوش شايغان: «في استيعاء العالم الإسلامي تجاه الهيمنة الغربية، نميز مرحلتين: النهضة والثورة. يرى أركون أن المرحلة الأولى تمتد من نهاية القرن التاسع عشر حتى 1950. والثانية ما زالت متواصلة وربما بلغت ذروتها في ثورة إيران الإسلامية، والحال، كيف جابه العالم الإسلامي هذا التحدي الجديد؟».

ومع أن مرحلة النهضة في العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر لم تبلغ شأو مرحلة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر، وهي التي عناها بقوله: «حداثة المرحلة الانتقادية التي تفكر، تسأل»، ومع أنه وجه لها بعض الانتقادات إلا أنه كان يفضلها على مرحلة الثورة في العالم الإسلامي.

وقد قال في إطار هذه المقارنة التفضيلية: «لكن ماذا حدث بين هاتين المرحلتين؟ أعتقد أنه كان بينهما استبطان للجذر الجديد، ولكن بطريقة منحرفة وناقصة، وأعني بذلك أن مفكري النهضة، رغم حبهم للإسلام ومن ثنائيتهم القيمية، قد طرحوا أسئلة جوهرية. لقد قارنوا، وتنبهوا للتفاوت، ووضعوا الأصبع على المشاكل الواقعية وبالأخص امتنعوا أن يكونوا أهل حقد وضغينة. قام القصيمي (المصري) بهجوم منظم على الموروثات الثقافية للمسلمين...»...
الذي فهمه أحمد الواصل من السطر الأخير من كلام داريوش أنه يعلق على كتاب عبد الله القصيمي (هذي هي الأغلال) ثم نعى عليه – ساخراً - أنه لم يتح له من كتب القصيمي إلا هذا الكتاب!
على أي شيء بنى أحمد فهمه هذا؟ هل بناه على جملة «هجوم منظم على المورثات الثقافية للمسلمين»؟
النص الأول الذي اقتبسته والذي أخذ فيه داريوش شايغان بتحديد محمد أركون الزمني لمرحلة النهضة ما بين نهاية القرن التاسع عشر إلى عام 1950 وارد في ص66 من كتاب داريوش شايغان، والنص الثاني الذي اقتبسته وارد في ص69 و70، وبحسب تاريخ صدور كتاب عبد الله القصيمي (هذي الأغلال) الذي حرص أحمد على إثباته، فإن هذا الكتاب صادر في عام 1946. أي أنه صادر في أواخر مرحلة النهضة، وقبل سنوات قليلة من بداية مرحلة الثورة. وهذا ما يجعلني أشكك بأن أحمد قد قرأ ما جاء في الاقتباس الأول.
إن داريوش لم يكن يتحدث عن كتاب بعينه من كتب القصيمي وإنما كان يتحدث عن مؤلفاته التي والى إصدراها منذ عام 1963. وفي ظني أنه لا يعرف اسم الكتاب الذي ذكره أحمد. ولا يعرف جيداً المؤلفات التي أومأ هو إليها، وإنما سمع بها وسمع عنها من مثقفين عرب تعرف إليهم في باريس. فالقصيمي في المؤلفات التي أومأ إليها لم يكن معنياً بالهجوم المنظم على الموروثات الثقافية للمسلمين بقدر ما كان معيناً بالهجوم المتكرر على الموروث الاعتقادي (الإلهي) عند المسلمين، والدعوة إلى الإلحاد بالإله.
هذا هو أول أخطاء داريوش شايغان.

خطؤه الثاني أنه عدّد أكثر من اسم لممثلي مرحلة النهضة في العالم الإسلامي (الأفغاني، محمد عبده، الكواكبي، رشيد رضا، محمد إقبال) وأتى باسم القصيمي وعلي شريعتي باعتبارهما ممثلين لمرحلة الثورة فيه. وهنا خلل واختلال. وأعني بالخلل والاختلال معنى مختلفاً عن معنى الاختلالات التي نظّر حولها في أكثر من فصل في كتابه.
لا يمثل القصيمي تياراً عاماً أو خاصاً في الثقافة العربية في مرحلة الثورة، بل هو نسيج وحده يختلف كلياً حتى عن بعض المثقفين العرب الذين أعجبوا وفتنوا به. ولا يوجد ما يجمعه بعلي شريعتي بل هما طرفا نقيض في كل شيء.
وبالقدر الذي أساء فيه اختيار القصيمي معبراً عن مرحلة الثورة في العالم الإسلامي، فلقد أحسن في اختيار علي شريعتي متمثلاً لها وممثلاً للانحسار والانجذاب للماركسية. لأنه كان مثالاً أنموذجياً لهاتين الحالتين. كما أنه كان يمثل تياراً ومدرسة في العالمين الإيراني والعربي.

والوجه الأخير للخلل والاختلال أنه لم يأت باسم في العالم العربي سواء من التيار العلماني أو من التيار الديني يمثل حقاً مرحلة الثورة فيه.
خطؤه الثالث، أن القصيمي لم يكن بأي صورة كانت متأثراً بالفكر الماركسي أو بالفكر الاشتراكي بل هو مثله معاد للماركسية بالقدر الذي هو يعاديها، وحانق على عصر الثورات السياسية، ويجل الملكيات الوراثية ويحترمها.
خطؤه الرابع، أنه ليس ثمة انقطاع تام بين مرحلة النهضة وبين مرحلة الثورة في العالم العربي. فابتداء من خمسينات القرن الماضي كانت هناك أسماء إصلاحية –على سبيل التمثيل لا الحصر - كخالد محمد خالد تلميذ القصيمي ومحمد أحمد خلف الله وعبد الله العلايلي ومحمد النويهي ومحمد عمارة قبل أن يتحول. وهؤلاء كان المثقفون العلمانيون العرب الثوريون يشايعون أطروحاتهم ويثمنونها ولا يدعون إلى القطيعة معها أو إلى نبذها. وللحديث بقية.