محمد الساعد

في العام 1853 أطلق قيصر روسيا «نيكولاي الأول» على الدولة العثمانية لقب «الرجل المريض» بسبب ضعفها وانهيار مكانتها في العالم، ودعا بريطانيا كونها القوة العظمى في تلك الفترة أن تشترك مع بلاده في اقتسام أملاك الدولة العثمانية.

كان العالم مهيأً للانقضاض على العثمانيين بعدما عاثوا في الإقليم حروبا وجرائم إبادة سواء في الدول العربية التي كانت تحت احتلالهم أو في جوارهم الآسيوي - أرمينيا والقرم -.

كل تلك الحروب العبثية والموارد الطائلة صرفت على أحلام واهية لا يمكن تحقيقها، وفوقية إمبراطورية أدت إلى سقوط العملاق وتهشمه، انتقل الصراع سريعا إلى داخل الدولة العثمانية وانتهى بحزب الاتحاد والترقي وهو إفراز عثماني عنصري قفز على السلطة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد استطاع ذلك الحزب الحفاظ على المكون الأساسي لبلاد الأناضول، حيث مقر هجرة الأتراك من أواسط آسيا.

صحيح أن الإيرانيين لم يتحولوا إلى إمبراطورية، ليس لأنهم لا يريدون، بل لأنهم حكموا بعقلية القرون الوسطى فلا هم الذين كانوا قياصرة وسلاطين ولا هم الذين كانوا حكاما في هذا العصر مثل رؤساء أمريكا وروسيا الدول العظمى في هذا العالم، نظام هجين متخلف لا يقوى على الخروج من سرداب وهمي مبني قبل ألف وثلاثمئة عام اعتبروه طريق خلاصهم ووصولهم إلى الحكم وهو في الوقت نفسه سجنهم الذي لا يستطيعون الخروج منه.

اليوم يواجه الإيرانيون نفس المصير ويكادون أن يكونوا «الرجل المريض» في هذا العصر، فالتمدد غير المسبوق الذي قامت به طهران في الأربعين سنة الماضية من حرب مع الجار «العراقي» امتدت لثماني سنوات تقريبا، وما تلاها من محاولات تمدد خارج حدودها واستنزاف مواردها وصرفها في حروب عبثية ومحاولة احتلال خمس عواصم عربية دفعة واحدة.

كانت فخاً حقيقياً لم يفهمه الإيرانيون، الذين أقنعوا أنفسهم وأقنعهم العالم أنهم أذكياء، وثبت الآن أنهم مجرد أداة استخدمت لهد الإقليم لصالح قوى لم ترغب أن «تزّفر» يدها في هذه البقعة التعيسة من العالم.

لقد نجح الأمر - ظاهريا - في بغداد ودمشق، وجزئيا في بيروت وفشلت في اليمن والبحرين، لكنّ الإيرانيين لم ينتبهوا أنهم مجرد «عمال نظافة» في بغداد ودمشق، أي أن الأمريكان والروس يجلسون على مقاعد وثيرة في قواعدهم العسكرية خارج بغداد ودمشق، ويقوم الإيرانيون بكل الأعمال القذرة، حتى إذا جاء الوقت انقضوا عليهم كما حصل مع سليماني.

لقد تراجع إرث السلطة البرغماتية في طهران وأدبياتها التي بناها رفسنجاني ومن بعده خاتمي، وانحصرت في يد خامنئي -المندفع والسلطوي- الواثق في رجال مليشيا حرس الثورة أكثر من السياسيين، هذا الأمر أدى إلى فراغ هائل في بنيوية الدولة وهيكلها الإداري والمالي، ومخلفاً نظاماً عبثياً هرماً من داخله، وأصبح بالفعل مريضاً لا يقوى على الحراك.

بعد مقتل سليماني الرجل القوي في النظام الإيراني واقتلاع عين الصقر، أطلقت إيران عشرات الصواريخ غير المفيدة، كان يقال سابقاً حرك جبلاً ولا تحرك إيرانياً، وكان يقال إن القرار في طهران يستغرق إذا كان عجولاً ثلاثين عاماً، كان من المستغرب قيام طهران بإطلاق نيرانها باتجاه قاعدة عسكرية أمريكية في العراق بعد 48 ساعة فقط من الهجوم على سليماني.

يبدو أن إيران لم تعد ذلك الرجل الصبور الذي يحول المعارك لانتصارات على طاولة المفاوضات، وأحرقت فرصتها في تحويل الحادثة إلى مفاوضات عبثية لا تنتهي كما هي عادتها، لقد قامت بأحمق عمل يمكن تصوره.

فالصواريخ فاشلة ولم يُقتل أمريكي واحد ولم يُهدم مستودع صغير للذخيرة في القاعدة، بل الأدهى أن الإيرانيين فشلوا في إدارة سماء المعركة فوق طهران، فقد أطلقوا الصواريخ دون أن يفرضوا حظراً للطيران، ودون أن يمنعوا الطائرات المدنية من التحليق على الأقل فترة القصف، ما نجم عنه فضيحة كبرى لا يمكن تجاوزها بإسقاط طائرة مدنية مليئة بالركاب.

تعيش اليوم إيران أيامها الأخيرة كدولة عصية على الاختراق والهدم، ولن تكون السنوات القادمة كما مضى، وسيكون التراجع قاسياً ومؤلماً.

لقد اكتشف العالم باختبار صغير أنها مجرد نمر من ورق، وأن طهران المريضة أصبحت رهينة ملاليها الخرفين، الذين لا همّ لهم إلا إبقاء السيطرة على الأتباع في إيران والعراق والضاحية، وإعطاءهم جرعات مشبعة بالبكائيات، وكأنهم فرحوا بمقتل سليماني ليُبقي جذوة المظلومية عقوداً أخرى قادمة.