ممدوح المهيني

حاول الإيرانيون الاستعراض بقوتهم وجرأتهم مع الأميركيين في عهد ترمب، لكن الخطوط الحمراء كانت مرسومة بدقة. الخط الأبرز عدم إراقة الدماء الأميركية، لكي لا يضطر الرئيس الأميركي للرد بقسوة، وحتى لا يصبح أضحوكة أمام منافسيه.

في الأشهر الماضية، التزم الإيرانيون هذه الخطة المعدة جيداً. اختطفوا ناقلات نفطية وأسقطوا طائرة «درون» أميركية، وأحرجوا الرئيس ترمب وأظهروه بالضعيف أمام خصومه، وفي الوقت ذاته كبّلوا يديه لعدم قدرته على الرد.

كانت خطة الإيرانيين في البداية زرع الانقسامات داخل إدارته وكسبه إلى صفهم، لإيمانهم أن المشكلة بالرجال العقائديين المحيطين به، وليس فيه. غازلوا فيه شخصية رجل الأعمال البراغماتي منهي الصفقات، الذي يخلو صدره من أي عقيدة سياسية ودينية. فشلت هذه الخطة وتحول بعد ذلك الهدف إلى إضعافه حتى يهزم في الانتخابات القادمة على يدي بايدن أو ساندرز. بدوا كأنهم مشاركون مؤثرون في استراتيجية الحزب الديمقراطي لإسقاطه. وفي إطار هذا التفكير، رسمت الخطة جرحه وإحراجه، لكن دون أن يمنح سبباً للرد المشروع في أعين مؤيديه.

عندما أسقطت طائرة «الدرون» في سبتمبر (أيلول) الماضي، ضغط مستشار الرئيس للأمن القومي بولتون، ووزير الخارجية بومبيو، على رئيسهم ليرد بقوة على النظام الإيراني، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة، معلناً مجدداً أن خطه الأحمر هو حياة الأميركيين. سفك الدماء يعني تجاوز الخط الأحمر، وسيجد حينها مبرراً داخلياً لجمهوره، ورداً على المشاغبين داخل حزبه، والأعداء في الصحافة. لا يستطيع أحد أن يزايد على رئيس يدافع عن دماء مواطنيه التي أهرقت في بلاد غريبة.

خطة الإيرانيين كانت جيدة لبعض الوقت، لكن ليست مثالية لكل الوقت؛ حيث انحرفت عن مسارها بشكل متوقع. في الأسابيع الماضية، تخطوا الحدود عندما قتلوا مواطناً أميركياً واعتدوا على السفارة، فلم يكن أمام ترمب إلا أن يرد، لأن السكوت هذه المرة سيكلفه كثيراً، وقد يخسر فيها منصبه. تمزق جسد سليماني لأشلاء في خطة تعقب وترتيب، نعرف الآن أنها استمرت 18 شهراً، تمت فيها ملاحقة خطواته وجهزت لتنفيذها كردّ حاسم في حال تعدى النظام في طهران الحدود التي وضعها الرئيس.

لكن السؤال الأهم؛ كيف يفكر ترمب في الملف الإيراني بعد مقتل سليماني؟

على الأرجح أنه سيكون أكثر حزماً وإقداماً في تعامله لعدد من الأسباب. وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس ترمب فرضت العقوبات الأقسى، ووضعت قائمة طويلة من الشخصيات والكيانات حتى الشركات تحت لائحة الإرهاب، فإن ترمب أثار في تغريداته ورسائله بعض الشكوك أنه سيعيد اتفاق أوباما بشروط جديدة بعد أن يشطب اسم الرئيس السابق عليه ويضع اسمه، معلناً نصراً دبلوماسياً تاريخياً يستثمره انتخابياً.

مع مقتل سليماني، تلاشت كل هذه الشكوك وطوي هذا الفصل، وبدت تغريدات ترمب وتصريحاته الأخيرة أكثر وضوحاً؛ حيث أعلن أنه لا يهتم بالمفاوضات، على عكس حديثه المتضارب قبل قتل سليماني. ولأول مرة يخاطب ترمب مباشرة - حسب ملاحظة الباحث والصحافي في «العربية.نت»، صالح حميد - الشعب الإيراني باللغة الفارسية ولمرات كثيرة؛ حيث كان سابقاً يخاطب قادة النظام بطرق مباشرة ورمزية.

هذا السبب الأول الذي يشير إلى أن إدارة ترمب ستتخذ مواقف أكثر حزماً، والسبب الآخر منطقي وعملي؛ نظام الملالي ينزف ويترنح، لماذا مد يد العون له ومنحه قبلة الحياة. ترمب يشم رائحة دماء النظام بعد مقتل سليماني، وفصول المسرحية الهزلية التي كشف فيها الإيرانيون بغير قصد عن قوته المتواضعة، من خلال إطلاق الصواريخ على القواعد الأميركية في العراق، ومن خلال إظهار نقص عميق في الكفاءة التي تجعل القوة الدفاعية تسقط طائرة مدنية اشتبهت بكونها صاروخاً.

الصفقات تعقد مع الأنداد، وليس بين أكبر قوة عسكرية في التاريخ ودولة مهترئة تسقط طائرة مدنية تحمل عشرات من مواطنيها. من يعرف عقلية ترمب، يدرك أنه يحترم الأقوياء ويخطب ودهم ويرسل لهم رسائل غرامية لكسبهم. أما الضعفاء فيرسل لهم رسائل توبيخ تصفهم بالحماقة، ولن يتردد بالدوس عليهم.

رائحة الدم الإيراني المنتشر في المنطقة، وغضب الداخل، والمظاهرات المستمرة، كل هذا سيجعل ترمب يتجرأ على النظام أكثر، متطلعاً لتحقيق إنجاز تاريخي في السياسة الخارجية في عهده الثاني، بعد أن فقد الأمل في عقد صفقة مع كوريا الشمالية، كان يراهن عليها حتى وقت قريب.

من المؤكد أن ترمب يثق الآن أكثر برؤية فريقه الذي طالب مراراً بتوجيه ضربة قاسية للنظام الإيراني وليس لوكلائه. هذا الضعف الإيراني سيكون أكبر حجة للفريق داخل إدارة ترمب، الذي ينادي باتخاذ موقف أكثر صرامة من طهران، وجادل طويلاً بخطورة النظام، وضرورة استخدام القوة معه لردعه. وفّر هذا الفريق ما يبحث عنه الرئيس الأميركي منذ فترة طويلة؛ حيث اتهم من قبل خصومه بأنه نمر في «تويتر» ورعديد في الواقع. مقتل البغدادي وسليماني في أقل من 3 أشهر سيعزز صورته كرجل قوي، ليس فقط عندما يمسك هاتفه. أضف إلى ذلك أن المؤسسة الجمهورية متحدة خلفه في الأسابيع الأخيرة، بشكل لم نره في أحداث كثيرة لم يعجبها سلوكه، مع ثقته بفريقه المقرب، وجبهة جمهورية تسانده، وبريق صورة الرجل القوي، وصورة المرشد المنتحب، الذي ينشر دعاء الفرج من المصائب.