جميل مطر

خلال الأسبوع المنصرم وقف العالم برهة على حافة حرب، طرفاها لو نشبت لكانا دولة عظمى قادمة إلى الإقليم من القمة، ودولة متوسطة تنتمي لنظام إقليمي ناشئ وتقيم فيه. لم تكن البرهة هي الأخطر في تاريخ الأزمات العالمية الشهيرة؛ إذ سبقتها «برهات» أخرى أخطر، أذكر منها على سبيل المثال البرهة التي أعقبت إطلاق الاتحاد السوفييتي إنذاره إلى دول العدوان الثلاثي، بوقف تقدمهم لاحتلال قناة السويس في حرب عام 1956، وكانت من بين الدول المعتدية دولتان من الدول المصنفة من الدول العظمى أو الكبرى ضد دولة متوسطة.
أظن أن المؤرخين سوف يتوقفون كثيراً للمقارنة بين الأزمتين، إحداهما أطلقت عصراً جديداً وتوازناً جديداً للقوة الدولية، ونهضة استقلال عمت قارتي آسيا وإفريقيا، وهزت أهم أعمدة الهيمنة الغربية في أمريكا اللاتينية، القارة الثالثة. انتهت حرب السويس ببدء خروج الإمبراطورية البريطانية العجوز من مستعمراتها، وتنازلها عن موقع الدولة العظمى، وهو الموقع الذي احتلته وبدون انقطاع على امتداد ما يزيد وقتها على ثلاثة قرون. لم نسمع لبريطانيا بعدها صوتاً نافذاً، وإن ظل لأكثر من قرن أميناً على سمعة المملكة المتحدة، تابعاً أميناً للولايات المتحدة، هذا عن الأزمة الأولى.
أما الثانية، وعلى الرغم من أننا لا نزال في بدايات التعرف إلى تداعياتها، فلست من الذين ينتظرون حلحلة فورية أو بعد عقود في أوضاع الإقليم العسكرية والسياسية والاقتصادية نتيجة لها. أقول هذا وفي مخيلتي أسئلة عدة قيدت حريتي. وفي مخيلتي أسئلة عدة وقناعات قديمة وحديثة قيدت حريتي.
لازمتني هذه الأسئلة منذ بداية الأزمة الناتجة عن اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، وللأسف بقيت لا تغادر منتظرة إجابات شافية لا تأتي. من هذه الأسئلة سؤال اكتشفت أنه باق أيضاً مع متخصصين كثيرين حتى بعد انحسار الأزمة. لم أفهم، وما زلت عاجزاً عن فهم، مواقف مستشارين وخبراء وعلماء من شخص في البيت الأبيض، غير كامل الأهلية العقلية والأخلاقية من وجهة نظر أغلبهم، يملك وحده حق زج بلاده في حرب. يطيعونه وينفذون شطحاته ويرددون تغريداته. كان الرد أحياناً مفحماً. وأين هي الدولة في عالمنا وفي هذا العصر أو غيره من العصور التي لا يملك الإمبراطور فيها أو السلطان أو الرئيس حق إعلان الحرب والتصرف في مقادير شعبه كيفما شاء.
يشاء حظ أهل الإقليم، من المسلمين (الشيعة والسنة) ومن المسيحيين والدروز إلى جانب ملايين آخرين يدينون بما لا يقل عن عشرين عقيدة، أن يقود جانباً في الأزمة، ويتسبب فيه رئيس في البيت الأبيض لا يقول كلمة صدق إلا نادراً، فما بالنا والحال هي حال حرب وفتك وقتل ودمار. بالفعل كذب الرجل متطوعاً حين صرح، لا أذكر مغرداً أم ناطقاً، بأنه أصدر الأمر باغتيال القائد الإيراني الذي يحتل مكانة الرجل الثاني في النظام الإيراني؛ لأن المعلومات التي في حوزته، أي في حوزة الرئيس، تؤكد أن القائد كان يخطط للهجوم على أربع سفارات أمريكية وقتل من فيها من الأمريكيين. لم تمر ساعات إلا وكان مسؤولون أمريكيون يتبرأون من العلم المسبق بهذه المعلومات الخطرة. بين هؤلاء أو في صدارتهم كان وزير الدفاع الأمريكي، وبعده بساعات خرج وزير الخارجية يؤكدها في إشارة واضحة إلى حال تخبط داخل شريحة إعداد القرار في واشنطن.

سألت وما زال السؤال بغير جواب يرضيني كإنسان. هؤلاء المئات من نواب وشيوخ وموظفي محاسبة ورقابة وجنرالات كل منهم مسؤول عن سلامة ضباطه وجنوده، هؤلاء مع عشرات المستشارين الذين يقبضون رواتب ضخمة ليكونوا في خدمة شعب آمن ومطمئن ودافع ضرائب بانتظام وعن اقتناع، كلهم لم يتمردوا على رئيس كذب في لحظة تستحق الصدق والوطنية والإيمان بالشعب والدستور.
هنا أعود إلى سؤال فرعي لم أسأله إلا لاحقاً. سألت ماذا وراء هذا الصمت الرهيب من جانب كافة قصور القرار والدفاع في العواصم الأوروبية؟ ولماذا تأخرت روسيا، الدولة الكبرى الأخرى، في التعبير عن رأيها. الآن وقد صار الروس متمكنين ومتنفذين في العديد من المواقع في الشرق الأوسط ألم يكن جائزاً وفي أعناقهم، وحدهم كما يبدو، أمن وسلامة شعوب وحكومات عربية، أن يغضبوا لما فعله رئيس في البيت الأبيض؟

صمت روسيا يثير التساؤل بينما صمت الصين لا يثير شيئاً. هذا صحيح، فالصين لم تسع لملء فراغ بعد آخر في أعقاب انسحاب أمريكا من موقع بعد آخر في الشرق الأوسط.
أسأل، ومن حقي أن أسأل ومن واجب المسؤولين العرب أن يجيبوا، إلى متى تظل هذه الأمة مبعدة عن شؤون الحرب والسلم الدائرة على أرض العرب؟ نشبت أزمة اختار طرف فيها بغداد، وما زالت حسب علم أغلبية الشعوب العربية عاصمة عربية لدولة عربية، اختارها ليقع فيها الانفجار الأول ثم عاد الطرف الثاني في الأزمة فاختارها موقعاً للرد على الطرف الأول.
أعود إلى سؤال سألته قبيل نشوب الأزمة وفي أعقابها، سألت لماذا سمح المسؤولون الإيرانيون بانحدار شعبية «حزب الله» في لبنان وقوات «الحشد» في العراق في وقت التحضير لنشوب أزمة أو لتفاديها؟. كيف ومن اتخذ قرار الالتحام في البلدين العربيين بقوى الفساد وأنصار ما تسمونها قوى الاستكبار ضد شعبين مطحونين ومستضعفين؟. مرة أخرى نتأكد من أن رفع شعار تحرير فلسطين لم يعد في نظر الشعوب العربية المنهكة مبرراً كافياً للاستمرار في ارتكاب نفس الخطأ. سألت السؤال في لبنان وسألته في مقابلات واتصالات مع عراقيين من أجيال وطوائف مختلفة ولم أتلق جواباً شافياً أو حتى مهدئاً.