عدنان أبوزيد

تتوغّل الأوضاع في العراق، الى حالة من الخصام السياسي والاجتماعي بين تيارات محافِظة، اغلبها يمتلك السلطة والنفوذ، واتجاهات مدنية وجماعات شعبية، شعبوية، تعتقد بالتغيير، وإنْ كان قسريا، في طريقة إدارة الدولة، وممارسة السلطة، على الرغم من تواضع أدواتها، فيما أعدادها لم تعد ضئيلة على مقياس التجمعات في العالم، فضلا عن انها تمكنت من الصمود لفترة زمنية ليست بالقليلة، في ساحات الاحتجاج.

يلمس الناظر للأوضاع، ان التوجهات التي تنادي بالتغيير السياسي، تتجسّم في تشكيلات من ناشطين، ومواطنين كسبة، وكتّاب وفاعلين سياسيين، وطلاب، تفترض الممارسة الاحتجاجية الدائمة في الساحات، طريقا وحيدا لتحقيق الأهداف، فيما الأحزاب التي تمثل الكتل السياسية، بتحالفاتها المعروفة، والتي تهيمن على الأدوات المادية في السلطان، والمنابر الاعلامية، بدت "مبهوتة"، فيما ادواتها لم تقدم إنجازا يُقنع المعارضين بالحلول وخرائط الطريق، في وقت تركّز فيه الجماعات الشعبوية، ونخب المحتجين، وانصارهم على التحشيد المستمر للعصيان المضاد في ساحة التحرير، في بغداد وفي المحافظات، محققةً انجازا جماهيريا لم يهفت بسرعة، لأول مرة منذ ٢٠٠٣.

يبدو مُستغربا في نظام ديمقراطي، حدوث مثل هذه القطيعة بين ساحات التظاهر والقوى السياسية، ففي الديمقراطيات المعروفة لا يحدث ذلك، بل هو سمة تشترك فيها الأنظمة الدكتاتورية. وفي عراق ما قبل ٢٠٠٣، كانت هناك "قطيعة صامتة" بين الجماهير والنظام، لأسباب معروفة أبرزها، تهاوي القوى المعارضة تحت الضربات، وتمكّن "الحزب الواحد" في ذلك الوقت من الهضم القسري للتيارات اليسارية، في واجهاته المدنية الشكلية، مثلما سحق القوى الدينية والمحافظة في حملته الايمانية.

وعلى رغم العنف الحاصل في الساحات، فان الديمقراطية في العراق، نقلت الفعل المعارض من السراديب تحت الأرض، وهو الامر الذي ميّز نضالات اليساريين والإسلاميين العراقيين طوال عقود مقرونا بالقهر العنيف، قبل ٢٠٠٣، الى فعل علني تحت ضوء الشمس، وله منابره التي تصل الى كل الاصقاع، فيما بدت السجالات الإيجابية الإعلامية والتواصلية الافتراضية وفي المنتديات، على اشدها، في حالة من السلمية في اغلب الأحيان، تتخللها حوادث عنف "تقليدية"، لا ترقى الى أعمال الابادة الكاملة للنشاطات السياسية المعارضة التي ميّزت حقبة قبل ٢٠٠٣، الامر الذي يوجِب على الأطراف اليوم، انعاش الديمقراطية، وعدم الانجرار الى حالة من صراع، تتقهقر على خطواتها القاتلة، الديمقراطية العراقية.

في هذه اللحظة الاختبارية الحرجة، فان التداعيات تستوجب القوة الناعمة من قبل كل من السلطات والمعارضين، في التعبير عن الأيديولوجية والابتعاد عن الغلواء والإبقاء على حالة السجال المشروع، وضمن النظام الذي يتوجب حمايته، دون الانجرار الى سباق النفوذ في الاستغاثة بأدوات التنكيل والقمع المادي والمعنوي، لاسيما وان الأطراف المتصارعة بدت أكثر تأهبا عبر الاعلام ومنتديات التواصل، على المجاهرة بالعداء لبعضها البعض.

الاستقطاب الحاد، يشير الى ولادة جمهور متطرف من معارضين وموالين، فيما راحت الصرامة الاعتقادية والسلوكية التي يمثلها أولئك الذين يوصفون أنفسهم بـ"الثوريين المخلّصين"، يتبنى رؤية أحادية في وضْع سبل النجاة، تقوم على قاعدة فشل الطبقة السياسية برمّتها في الحكم، من دون الخوض في أسباب الفشل، التي لو بقيت قائمة، ومتجذرة في اصل النظام والمجتمع، وبنية القوى الاجتماعية المؤثرة، فان أي تغيير في الشخوص، لن يجدي نفعا.

قواعد اللعبة الديمقراطية، يجب أن تتواصل، على رغم الاستعلاء والتشامخ في الاستقطاب الفكري والسياسي بين الطرفين، والذي أنتج اشتباكا جليا بين معارضين وموالين، كما أدى الى إعادة انتاج الكثير من الأفكار العاكسة لتحولات مهمة في المجتمع العراقي، بين تبني وسطية سياسية وفكرية تبتعد عن التشدّد والغلو اليساري واليميني، وأخرى متزمتة تسعى الى السطوة والاستحواذ بالقوة المادية، والتسلط الفكري.