حسن مدن

يُحسب للقائمين على تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب اختيارهم المفكر الراحل جمال حمدان شخصية هذه الدورة من المعرض. اختيار صادف أهله، ويأتي في وقته، مع أن رجلاً مثل حمدان جدير بأن يحتفى به وبكتبه في كل وقت. ولكن بالنظر لما لمعرض القاهرة للكتاب من أهمية، لا تقف عند البعد المصري الواسع، إنما تشمل البلدان العربية الأخرى، حيث تتجه أنظار الكتاب والمهتمين بالقراءة نحو المعرض، فإن جعل اسم جمال حمدان عنواناً له هذا العام أمر مقدّر.
وكان مبهجاً ما أعلن عنه رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، بعد أيام على افتتاح المعرض، من أن كتاب «شخصية مصر» لحمدان حقق أعلى المبيعات في المعرض، وهذا ما يعني أن حياة ومؤلفات الرجل تظل حية وحاضرة في أذهان أبناء شعبه وأمته، خاصة أن أكاديميين ومثقفين مصريين، عبّروا عن الأسى من أن الرجل الذي توفي في ظروف غامضة، لم ينل في حياته ما هو قمين به من تقدير.

ومن بين هؤلاء الدكتور فتحي مصيلحي الذي تحدث في إحدى الفعاليات المكرسة للمحتفى به عما أحاق به من تجاهل وهو حي رغم وطنيته وتعلقه ببلده مصر، وسعيه لدراستها من أبواب غير مسبوقة، وهذا أيضاً يضفي أهمية إضافية على احتفاء معرض الكتاب به.
قبل نحو ثلاثة عقود وجدت جثة جمال حمدان في مطبخ شقته بحي الدقي بالجيزة، وقد أحاطت شكوك كبيرة بملابسات موت الرجل، ووجهت أصابع الاتهام تحديداً إلى عملاء «الموساد الإسرائيلي» الذين كان لهم مصلحة في إنهاء وجوده في الحياة، خاصة بعد ما رجح عن اختفاء مخطوطة كتاب كان منكباً على إعداده عن تاريخ اليهود يفند فيه، بمنهجه العلمي المعتاد، الكثير من الأوهام والأساطير التي تروجها الصهيونية.

ويمكن التخمين بمحتوى هذا المخطوط إذا ما قرأنا كتاب حمدان «اليهود أنثروبولوجياً»، الذي ذهب فيه إلى أن اليهود الحاليين ليسوا أحفاد بني «إسرائيل» الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وهي الأطروحة التي أثارت حفيظة الصهاينة، لأنها هدّت أعمدة مزاعمهم.
لكن أهمية ومكانة حمدان البحثية تجلتا أكثر ما تجلتا في تحليله لشخصية مصر، لا بمنهج رجل الجغرافيا التقليدي الذي لا يحسن سوى ترداد معلومات متواترة عن تضاريس الموقع وطبيعة المناخ وما إلى ذلك، وإنما برؤية العالم المتمكن من مناهج وحقول البحث المختلفة فرأى كل ذلك في سياق التحولات الاجتماعية والسياسية، بحيث يمكننا القول إنه أنزل الجغرافيا من برجها العاجي وأحضرها للحياة.