عبد الإله بلقزيز

حين انطلق مسلسل التّحرر الوطنيّ من الاستعمار في بلدان الجنوب، في قارّاته الثلاث كافّة، عقب نهاية الحرب العالميّة الثانيّة وقيام منظمة الأمم المتّحدة، فتوَّج مسارَهُ بنيْلها استقلالها الوطنيّ وشروعها في بناء دُولها المستقلّة، لم يتوقّف كثير منها عند حدود الاكتفاء بالمتحقّق من الأهداف، وإنّما تطلّع إلى تحقيق الأكثر من ذلك انطلاقاً من الوعي بأنّ الاستقلال الوطنيّ لشعبٍ ما غيرُ قابلٍ لحماية نفسه إن لم يتحصّن بمزيدٍ من المكتسبات التي تَقْوى بها منعته. لذلك خاضت دُول من الجنوب عديدة، بين سنوات الخمسينات وسنوات السبعينات من القرن العشرين الماضي، فصولاً من الكفاح من أجل تعزيز استقلالها الوطنيّ عن طريق توْسعة معناه ومجالاته بحيث لا يُكْتَفى منه بمجرّد التسليم السّياسي والقانونيّ لها بالحقّ في الاستقلال عن المستعمِر وحيازة السيادة الوطنيّة.
من البيّن أنّ التطلّع ذاك نحو إنجاز حلْقات أخرى من التحرّر الوطنيّ مردّهُ، في المقام الأوّل، إلى إدراكٍ حادّ بأنّ الاستقلال سيرورة شاملة متكاملة اللّحظات والحلقات، وأنّ الحلقة السّياسيّة منها ليست إلاّ أولاها، وأنّها لا تكفي ذاتَها بذاتها إنْ لم تُستكْمَل بغيرها من الحلقات؛ التحرُّر الاقتصاديّ، والتحرُّر العلميّ والتِّقانيّ، والتحرّر الثقافيّ... إلخ. ومبْنى الإدراك هذا على الوعي بأنّ تركة الاستعمار ثقيلة، لأنّ فعْلَه وقَع على ميادين الحياة كافّة، لا على الإرادة السّياسيّة فحسب، كما أنّ مبناه على الوعي بما بين السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ من ترابُطٍ عضويّ، على النّحو الذي يستحيل معه أن يتحقّق استقلالٌ لصعيدٍ بعينه (السياسيّ هنا) فيما تستمرّ التّبعيّة حاكمةً غيره من الصّعد.
وهكذا، في مقابل روايةٍ سياسيّة غربيّة ذهبت إلى أنّ استقلال بلدان الجنوب سياسياً، وتمتيعها بالحقّ في بناء دولها السيّدة، بعد جلاء الجيوش والإدارات الاستعماريّة عن أراضيها، يوفّر لها أساسات تحرّرها الوطنيّ، تبلورت رواية سياسيّة جنوبيّة معاكسة تذهب إلى أنّ للتحرّر الوطنيّ معنى واحداً وحيداً هو فكّ الارتباط ؛ أي قطع روابط التبعيّة التي تربط المستعمَر إلى المستعمِر: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً. أمّا ما دون ذلك فمن قبيل «الاستقلال» في ظلّ الارتباط: كما لم يَخجل بعضُ الدّول الاستعماريّة (فرنسا في المغرب العربيّ مثلاً) في الجهر به والسّعي إليه!

إلى الوعي السياسيّ بهذا التّرابط بين حلقات التحرُّر الوطنيّ وأبعادها الكاملة، في عقل حركات التحرُّر الوطنيّ وخطابها، كانت ثمّة أسباب ماديّة (سياسيّة) أخرى تدعوها إلى الإلحاح على اتّصال حلْقات الاستقلال ببعضها. من الأسباب تلك ثلاثة: أوّلها ملاحظة أثر مواريث التبعيّة للأجنبيّ في بنيات بلدانها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتعليميّة، ودورها في كبْح أيّ محاولة للتحرّر إن هي استمرّت فاعلة. وثانيها تنبّهها إلى واقعِ سعيِ البلدان المستعمِرة إلى الإبقاء على روابط التبعيّة لما في ذلك من ضمانةٍ لاستمرار إخضاعها الاقتصاديّ لها بعد زوال إمكان الاستمرار في إخضاعها العسكريّ. وثالثها تطلّعُ قسمٍ كبير من دول الجنوب إلى سلوك سبيل سياسة عدم الانحياز تجاه المعسكريْن الرأسماليّ و«الاشتراكيّ»، بما تعنيه السياسةُ هذه، وتحمل عليه، من وجوب قطع علاقات التبعيّة بالأجنبيّ والتمسّك باستقلال القرار الوطنيّ؛ هذا الذي لا يكون مستقلاًّ إلاّ متى استُكْمِل الاستقلال السياسيّ بالاستقلال الاقتصاديّ والعلميّ.

وما من شكٍّ في أنّ بعض بلدان الجنوب ذات الأفق البرنامجيّ والرّؤيويّ التّحرُّريّ، مثل الصّين الشّعبيّة والهند وكوبا ومصر النّاصريّة، أصابت من سياساتها الوطنيّة التحرّريّة حظاً من النّجاح ملحوظاً، وإنْ كان بعضُها (مصر عبد النّاصر) قد تنكّب عن هذا الخيار فعاد إلى الوقوع في أغلال التبعيّة. وآيُ ذلك ما أنجزتْه الدّول تلك من مكتسبات كبرى في مضمار البناء التّنمويّ الوطنيّ، وما كان لها من الثِّقل الوازن في السّياسات الإقليميّة والدّوليّة. ومع أنّ فكرة عدم الانحياز (أو سياسة الحياد الإيجابيّ) شهدت على تراجُعٍ حادّ في مضمونها الوطنيّ، بدءاً من مطالع عقد السّبعينات من القرن الماضي، إلاّ أنّ بعضَ تقاليدها استمرّت في عمل منظومة دول الجنوب، ومن ذلك، مثلاً، استمرار فكرة المنظومة الاقتصاديّة الجنوبيّة - التي أطلقها ميلاد مجموعة ال 77 في العام 1964 - حيّةً في تجربة بلدان الجنوب، وإنْ مرتبكة، بحيث بلغ عدد أعضاء المنتمين إليها 130 دولة قبل أن تذويَ فيها إرادةُ التّحرّر الاقتصاديّ وتضمحلّ إلى حدود الزوال!