علي عبدالله الأحمد

في الدائرة التاسعة بباريس كان لقاؤنا، في متحف العطور Musée du Parfum. وكل من يبدأ باكتشاف العاصمة الفرنسية يعرف أن الدائرة التاسعة ليست سوى متحف شاسع، فأينما نظرت تجد حولك قصة تستحق أن تروى، وهذه إحداها.

صاحبة المتحف التي التقيتها هي حفيدة مؤسسه، وتدعى مدام لاروش، وتنطق بالفرنسية لاغوش، و هي تنحدر من عائلة تخصصت في صناعة العطور.
هكذا عرفت مدام لاغوش عن نفسها، ثم قالت: «إن عائلتي من سلالة مزارعي تين، من الجنوب الفرنسي، ورائحته ندخلها على بعض العطور التي نصنعها».

تبادر إلى ذهني سؤال لحظتها: ولماذا فاكهة التين بالذات؟ فردت: «في الجنوب الفرنسي، لك أن تزرع أي فاكهة شئت وحوض البحر الأبيض المتوسط بطبيعة مناخه مثالي لزراعة الفاكهة، ولكن غالبية مزارعي فرنسا يتخصصون في نوع أو نوعين لا أكثر من الفاكهة، وأنا ولدت لعائلة تخصصت في التين».

ابتسمت منبهراً، ثم جلبت القهوة الفرنسية إلى مكتبها الأنيق، حيث كان اجتماعنا، والفرنسيون من طبعهم، متى ما أمعنت النظر، يستنشقون رائحة القهوة قبل أن يرتشفوا فناجينهم.

تأنت مدام لاغوش قبل أن تكمل رشفتها الأولى، سألتها: ماذا يعني لك العطر؟ وما الذي جعل الفرنسيين يتقنون هذه الصنعة؟ لماذا تفوقتم على غيركم من الشعوب في هذه الصناعة؟

كان جوابها: «فرنسا اليوم لديها قرابة 36 % من السوق العالمي للعطور، وتسهم صناعتها بشكل فعال في الاقتصاد الفرنسي، وهي صناعة عريقة تجاوزت عدة قرون، وملوك فرنسا كانت تصنع لهم عطور، لا تباع لغيرهم، فالعطر في الثقافة الفرنسية، هو جزء من جاذبية شخصيتك، ولهذا كان أبناء الطبقة النبيلة يحرصون على أن يكون لكل منهم عطره الخاص. وفي تلك العصور كان العطر بمثابة توقيع، فمثلاً إن أردت أن تقدم لأحد هدية، يكفي أن ترسل منديلاً مع هديتك وترش عليه عطرك، وعندها يعرف المهدى من أهداه».

كنا أنهينا قهوتنا، ونظرت إلى فنجان مدام لاغوش وإذا بصورة شجرة تين رسمت عليه، فعلقت مبتسماً: «يبدو أن التين حولك أينما كنت»، ضحكت وهي ترد: «نعم هو كذلك، باستطاعتك القول إنني ممتنة لفاكهة التين».

كانت تلك هي المرة الأولى أن أسمع أن هناك من هو ممتن للتين، وقلت لها: «في بلادنا نحن ممتنون للنخلة»، فردت: «عظيمة شجرة النخلة، قرأت عنها الكثير ولدي بعض المعرفة عن مدى ارتباط العرب بها، والنخلة وجدت قبل كل الديانات»، فقلت: «كذلك القرآن الكريم يذكر النخلة ويربطها بأحداث مهمة مثل مولد النبي عيسى عليه السلام».

ردت السيدة الفرنسية: «شكراً لإخباري، لم أكن أعلم ذلك»، ثم أكملت مبتسمة: «لكن يا سعادة السفير خيارات الزراعة وأنواع الأشجار متاحة أكثر في فرنسا مقارنة ببلادكم».

بعدها، غيرت هي الموضوع لتقول: «دعنا نتجول في المتحف وسأخبرك أكثر عن صناعة العطر وسنبدأ من الدور السفلي لأنه يحكي تاريخه في الحضارات القديمة».

قرأت عن متحفها قليلاً قبل أن آتي لمقابلتها، والمتحف بيت عائلتها، ربما يوصف بأنه قصر صغير، ولكن جماله في تاريخه الذي جعلني أفكر بزيارته.
في القبو، كانت مدام لاغوش واقفة أمام مخطوطات، ورسوم فرعونية، وقالت: «المصريون القدماء هم أول من اكتشف صناعة العطر، ليس للزينة، بل لاعتقادهم أنه يقربهم من آلهتهم، ثم انتقل إلى الحضارات الأخرى وأصبح استخلاص الزيوت العطرية جزءاً من علم الكيمياء، وأنتم كمسلمين كان لحضارتكم فضل في تطوير صناعتها».

شعرت بالفخر لما نسب لنا من سيدة متخصصة في هذا المجال، وتابعت هي: «في العصور الوسطى في أوروبا وعند انتشار الطاعون كان يُظن أن هذا الوباء ينتقل عن طريق الرائحة، وكان ذلك خاطئاً».

وأشارت إلى رسوم من العصور الوسطى لأطباء بأقنعتهم يضعون قطعة عطرية صلبة صغيرة تحت أنوفهم وهم يعالجون مرضى الطاعون، معتقدين أنهم إذا استنشقوا رائحة العطر فإن ذلك يمنع انتقال العدوى إليهم.

انتقلنا إلى الدور الأول، وكان مليئاً بزجاجات العطر وأشكالها المختلفة عبر عدة عصور، وواصلت مدام لاغوش: «العطور من أهم أسباب تطور صناعة الزجاج، وكان النبلاء يتفاخرون بجمال زجاجاتهم، فلكل زجاجته وعطره».

انتقلنا الى قسم آخر في الدور نفسه يعرض آلات التقطير والتبخير في صناعة العطور، وقرأت لوحة صغيرة تقول: «صناعة العطر في فرنسا تتركز في الجنوب نظراً لزراعة الأزهار».

سألت مدام لاغوش: كم يستغرق استخلاص الزيوت من الزهور؟ فأجابت: «لكل زهرة أسرارها، ووقت تبوح فيه بما خلقت لأجله، فالورد، مثلاً، من أسهل وأسرع الزهور في استخلاص زيته، ويتطلب أربعة أيام، لكن هناك زيوتاً عطرية لزهور أخرى تستغرق سنوات، وهو غالباً ما يحدد تكلفة الإنتاج، بالإضافة إلى ندرة هذه الزهرة أو تلك».

عقبت على كلامها قائلاً: «يبدو لي، وأنا لست متخصصاً في مجال العطر، أن تكلفة التسويق وحجم السوق الإعلانية للعطور هما عاملان في سعر البيع النهائي للمستهلك، وكما نرى، فإن معظم المشاهير السينمائيين أو الرياضيين أو غيرهم مروجون للعطور وبصورة مكثفة، ويكفي أن ننظر إلى اللوحات الإعلانية لندرك ذلك».

وافقتني الرأي وقالت: «نحن من يعمل في مجال صناعة العطور، ندرك أن ذلك ليس دوماً عاملاً إيجابياً، وربما يشتري الزبون عطراً لا يعجبه أساساً، لكنه مستعد لذلك لأن من يعلن عنه هو ممثله أو لاعبه المفضل. وبالنسبة لي، ذلك شيء يضر بصناعة العطر، لأن قيمته في محتواه، وماذا يعنيني أن يتظاهر هذا الممثل بإعجابه بالعطر، إن لم يشدني عند استنشاقه؟».

بنبرة أكثر حدة تابعت: «كيف لك أن تصدق أن كيم كارديشيان تعلن عن العطر على الإنترنت، وتبلغ مبيعاته بالملايين خلال ساعات محدودة، ذلك شيء لا يصدق».

سألتها: ما هي نسبة مبيعات عطور شركتكم خارج فرنسا؟ فأجابت: «ليست كبيرة، وفلسفة أسرتي التسويقية هي عدم الانتشار عن طريق موزعين، لدينا 40 محلاً في فرنسا لا تبيع غير عطورنا، بالإضافة إلى المشتقات العطرية الأخرى من صابون وكريمات وشموع وغيرها الكثير. أما مصانعنا الثلاثة فجميعها في حقولنا بجنوب فرنسا».

سألتها: برأيك، هل بإمكان هذه الصناعة أن تنجح في أماكن أخرى من العالم؟

أجابت لاغوش: «نعم، لكن عليكم أن تبدؤوا بالدراسة، وهنا في فرنسا توجد 3 جامعات متخصصة في دراسة كيمياء العطور، وغالبية خريجي هذا التخصص يعملون في مجال العطور الاستهلاكية، كالصابون ومساحيق الغسيل والتنظيف وملطفات الهواء. وهذا الجزء من الصناعة أكبر بكثير من سوق عطور الزينة، التي هي مجال اختصاصنا، وعدد الخريجين الذين يعملون في صناعتها لا يتجاوز 5٪، والمتميزون منهم يصبحون NOSE MASTERS

قاطعتها: ماذا يعني NOSE MASTER؟

أجابت: هو من يخلط الزيوت العطرية، لأن المواد الأولية متوفرة ومتاحة للجميع تقريباً، لكن ال NOSE MASTER الماهر يبتكر مزيجاً جديداً ممتع للاستنشاق.

أسهبت مدام لاغوش فقالت: يرى البعض أن حاسة الشم من أقوى الحواس، ولها تأثير أكبر في الدماغ، لأنها تختزل في الذاكرة لفترة طويلة، والرائحة قد تأخذك إلى مكان معين أو تذكرك بموقف مضت عليه سنوات طويلة، والذي يخلط العطر يشبه من يخلط الألوان، فاللوحة قد تشعرك بالسعادة، كلما رأيتها، وكذلك العطر، يسعدك كلما غمرك رذاذه.

انتهت الزيارة وشكرتها، وفي طريق عودتي إلى السفارة، تذكرت المثل الشعبي القائل(عط الخباز خبزه)، ولعل التحريف مباح هنا في فرنسا لنقول (عط العطار عطره).

كوكو شانيل، إحدى ملهمات هذا العالم المخملي، تقول رأيها بكل جرأة «المرأة التي لا تتعطر، لا مستقبل لها».

تبدو كوكو قاسية بعض الشيء، أما كريستيان ديور فينسب له قوله «عطر المرأة يفصح عنها أكثر من خط يدها»، لكن أشهر المقولات الفرنسية تربط الشم الجيد بالإحساس الجيد، وليترجمها كل حسب هواه، فالعطر ذوق، ولكل ذوقه.

شكراً لصناع العطور الفرنسية، ولهم أن يفتخروا، لأن غالبية البشر على الكوكب، كما تقول الأرقام، يتعطرون حسب الذوق الفرنسي.

قصة فرنسية تفوح بالأسرار

بإحساس الدبلوماسي الأنيق، يخرج علي عبدالله الأحمد،
سفير الدولة في فرنسا، من حقيبته في السطور التالية أوراقاً تفوح بالعطر الباريسي، الذي عرف بعضاً من تاريخه خلال زيارة لأحد متاحفه في العاصمة الفرنسية.

مدام لاروش، أو لاغوش، كما ينطقها متحدثو الفرنسية، هي بطلة هذه السطور باعتبارها صاحبة المتحف وحفيدة مؤسسه، وسليلة عائلة أسهمت عبر أجيال في صياغة الذوق الفرنسي المتصل بالعطر، بالتركيز على فاكهة التين.

متخففاً من القواعد البروتوكولية، يصحب الأحمد السيدة الفرنسية في رحلة عن تاريخ صناعة العطر وأسرارها التي يحتفظ الفرنسيون بكثير منها، ولعل فيما ترويه صاحبة المتحف بعضاً منها يكتبه السفير ل «الخليج».