سليمان جودة

لا تزال قصة الرسول - عليه الصلاة والسلام - مع جنازة اليهودي، صالحة لكل زمان ومكان، وسوف تظل تلهمنا المعنى الكبير في موضوعها، وسوف تبقى جاهزة لنعود إليها في كل وقت، فنأخذ منها ما يضيف مزيداً من الآدمية على حياتنا فوق هذا الكوكب!
القصة تقول إن الرسول الكريم كان جالساً ذات يوم مع بعض أصحابه، وإن جنازة قد مرت عابرة أمامهم، وإن الرسول قد وقف في مكانه بمجرد أن رأى مشهد الجنازة، وإن صحابياً قد لاحظ وقوف النبي، فجاء يهمس في أُذنه بأن الجنازة هي لرجل يهودي!
استغرب نبي الإسلام من همس الصحابي، وأراد أن يعطيه درساً يعيش مدى الزمان، ثم أراد أن يعطي الدرس نفسه لكل مسلم يأتي من بعد الصحابي إلى يوم القيامة، فقال عبارة صارت هي العلامة في القصة كلها؛ قال: إنها جنازة لإنسان!
فالعبرة في الموضوع لم تكن أن الميت كان يعتنق الدين الفلاني، ولا كانت أن لون بشرته كان كذا، أو أن لغته كانت كذا، أو أن جنسه كان، أو أن عرقه كان، أو أو إلى آخره، لا، لم تكن العبرة في هذا كله، ولكنها كانت في شيء واضح ومحدد، هي أنه إنسان، وأن هذه هي جنازته، وأن إكرامه فيها وهو يمر محمولاً، ليس لأنه يهودي، ولا لأنه يعتنق الديانة التي مات عليها دون ديانة أخرى، ولكن لأنه إنسان، وهذا يكفي جداً ويزيد!

والغالب أن هذا المعنى على الشمول، كان هو الحاكم في وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقَّعها في أبوظبي في الرابع من فبراير (شباط) من العام الماضي، الإمام الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، رئيس مجلس حكماء المسلمين، والبابا فرنسيس الأول بابا الفاتيكان!

وحين تطالع صفحات الوثيقة القليلة، فسوف تلاحظ أن في سطورها التي جرت صياغتها بدقة وعناية واضحتين، معنى مهماً للغاية، هذا المعنى هو أن شيخ الأزهر عندما كان يوقِّع عليها، كان يوقِّعها معه كل مسلم في الشرق أو في الغرب، أو هكذا تفترض الوثيقة وترى، وأن البابا وهو يوقِّعها في المقابل، كان يوقِّع عليها معه كل مسيحي كاثوليكي في الشرق أو في الغرب. وكان إلى جوار هذا المعنى معنى آخر يقول إن القيم الواردة فيها ليست التزاماً على مستوى الرجلين في حدودهما فقط، ولكنها التزام من جانب كل مسلم في العالم، وكذلك على مستوى كل كاثوليكي في العالم أيضاً!
فما هي هذه القيم العالية التي تؤسس لها الوثيقة، بعد أن مر عام كامل في هذا الشهر على توقيعها، وسط اهتمام إماراتي وقتها، وإقليمي، وعالمي، لا نزال نذكره؟!
في واحد من سطورها، تقول الوثيقة الآتي: الحرية حق لكل إنسان، اعتقاداً وفكراً وتعبيراً وممارسة، والتعددية والاختلاف في الدين والجنس والعرق واللغة، حكمة لمشيئة إلهية، قد خلق الله - تعالى - البشر عليها، وجعلها أصلاً ثابتاً تتفرع عنه حرية الاعتقاد وحرية الاختلاف!
وفي سطر آخر تقول ما يلي: حماية دور العبادة، من معابد وكنائس ومساجد، واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية والأعراف الدولية!
والمؤكد أن كل سطر منهما يحمل في كلماته قيمة باقية، وهي قيمة تدعونا إلى إحيائها في حياتنا على مدار اليوم؛ لأن وزنها الحقيقي هو في بقائها حية ضمن حياة الناس، وفي قدرة الذين وضعوها وصاغوها على ترجمتها إلى واقع حي ينفع الإنسان، ويغير من حياته إلى المستوى الأفضل على الدوام!

ولو أنت بحثت عن شيء تتجلى فيه حرية الاعتقاد، بالمعنى الوارد في الوثيقة، فلن تجد تجلياً أقوى من القداس الذي دعا إليه البابا في العاصمة الإماراتية، وقت التوقيع عليها، والذي حضره 180 ألفاً من الكاثوليك الذين يعيشون ويعملون في الإمارات. لقد كان هو القداس الأول من نوعه في المنطقة، وليس في الإمارات وحدها، وكان التجلي الأول كذلك لمعنى من المعاني الكبيرة التي تحملها الوثيقة!
أما حماية دور العبادة كمبدأ من مبادئ الوثيقة، فهي على موعد مختلف مع التجلي، وموعدها مختلف؛ لأنه سيتجسد في كيان اسمه بيت العائلة الإبراهيمية، الذي يمثل مبادرة من مبادرتين سعت إليهما اللجنة العليا لوثيقة الأخوة الإنسانية، منذ اليوم الأول لتشكيلها في أغسطس (آب) من العام الماضي!

اللجنة تأسست لنقل مبادئ الوثيقة من كلمات مكتوبة على ورق، إلى شيء من لحم ودم في واقع الإنسان، ومن حروف جف حبرها، إلى حياه تتحرك بين الناس. وإحدى المبادرتين هي منح جائزة عالمية من دار زايد في كل سنة، للشخصية العالمية الأكثر سعياً إلى نشر ثقافة الأخوة الإنسانية في أنحاء الأرض!
ولكن المبادرة الثانية ربما تكون الأهم؛ لأن بيت العائلة الإبراهيمية عبارة عن مشروع يجري العمل عليه، ليضم في شكله النهائي كنيساً وكنيسة ومسجداً في ساحة واحدة، وسوف يحدث ذلك للمرة الأولى تقريباً حين يتم؛ لأن بيتاً كهذا سوف يمثل مساحة واقعية مشتركة للتعايش، وسوف تتعزز فيه ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات السماوية الإبراهيمية الثلاث!

إنني أقول إن ذلك سيكون للمرة الأولى تقريباً؛ لأن في مدينة سانت كاترين في جنوب سيناء تجربة مشابهة، ولذلك، فاللجنة ربما تكون مدعوة إلى رؤية تجربة سانت كاترين عن قرب، ليخرج بيت العائلة الإبراهيمية إلى النور، باعتباره إضافة على الطريق ذاته!
وفي نص إنشاء اللجنة جاء ما يلي: سوف يكون هذا البيت رمزاً للأخوة الإنسانية وقبول الآخر، وسوف يؤكد في الوقت ذاته على خصوصية كل دين، وعلى أن تعدد الهويات الدينية لا يتعارض مع وحدة الإخاء الإنساني!
وفي الرابع من هذا الشهر استضافت أبوظبي تجمعاً إعلامياً، وكان السبب بالطبع أن هذا اليوم يوافق ذكرى مرور سنة على الوثيقة، ولكن سبباً آخر كان هناك، هو أن الإعلام شريك في الوثيقة، وأن عليه مسؤولية أساسية في إحياء مبادئها، وفي نشرها على كل صعيد، وبغير ذلك سوف تظل المبادئ في مكانها على الورق، وسوف يظل الإنسان يعاني من غيابها، كما نعاين في أكثر من موقع في عالمنا المعاصر!
في افتتاح التجمع الإعلامي، قال القاضي محمد عبد السلام، أمين عام اللجنة العليا، إن الإعلام في القلب من الوثيقة؛ لأن عليه أن يوازن في أداء مهمته بين المهنية وبين الإنسانية، ولأن هذه هي مسؤوليته في كل ممارساته مع الجمهور!
مبادئ الوثيقة لا بديل عن أن تكون في كل مدرسة، وفي كل معهد، وفي كل جامعة، ولا بديل عن أن تكون أمام كل صانع قرار هنا في المنطقة وفي العالم، ولا بديل عن أن تكون في كل دار عبادة، فهذا هو طريقها الصحيح إلى تحقيق غاياتها البعيدة، وهذا هو الطريق الطويل الذي عليها أن تمر فيه!