هدى الحسيني

اعتقد كثيرون أنَّ مؤتمر برلين سيكون علامة فارقة تؤدي إلى وقف إطلاق النار في ليبيا، فأوروبا تتفهم خطورة الأزمة المتصاعدة في ليبيا؛ لكن هل هي قادرة أيضاً على الاهتمام بمصالحها الخاصة؟

في الأيام التي تلت اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني، بدا أن العراق هو ساحة المعركة التي تجذب انتباه الغرب. مع تجدد المظاهرات الداخلية الداعية إلى طرد إيران من البلاد، والاضطرابات الناجمة عن محاولات طهران مهاجمة القوات الأميركية داخل حدود العراق، وقرار البرلمان الذي دعا الولايات المتحدة لسحب قواتها من العراق، بدا أن كل الأنظار ستكون على العراق.

لكن في الحقيقة، جاءت العناوين المقلقة من ليبيا. كانت البلاد التي لا تبعد سوى بضع مئات من الكيلومترات عن أوروبا، ولديها كثير من اللاجئين والاحتياطيات النفطية الضخمة، موضوع تجمع لزعماء مختلفين في برلين، في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الماضي.

جاء القادة لمناقشة مستقبل ليبيا، في وقت كان هناك فيه تصعيد في القتال، وزيادة في التدخل الأجنبي؛ خصوصاً من جانب تركيا وروسيا.

وكان من بين القادة الذين حضروا المؤتمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. وكان المعسكران المتنافسان اللذان يمثلهما اللواء خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق في طرابلس فايز السراج، حاضرين بشكل غير رسمي. رفض الاثنان الاجتماع، وعقدا مناقشات منفصلة في المؤتمر. انتهى المؤتمر باتفاق على تشكيل لجنة عسكرية تضم خمسة ضباط من كل معسكر، تحت إشراف الأمم المتحدة، تمهيداً لوقف دائم لإطلاق النار.

تم الاتفاق على التنفيذ الصارم لحظر الأسلحة المفروض على ليبيا منذ عام 2011، ووقف تقديم المساعدات العسكرية للقوات المتنافسة، لإجبارها على إجراء حوار جاد.

ومع ذلك، في الممارسة العملية، لم يتم اتخاذ قرارات محددة فيما يتعلق بوسائل مراقبة وقف إطلاق النار أو تنفيذ الحظر.

على الرغم من أن القمة أظهرت استعداد أوروبا المتزايد للتدخل في النزاعات المتصاعدة في ليبيا، فإنها في الواقع لم تتمكن من صياغة الآلية اللازمة لوقف الفوضى في قطاعي الأمن والحكومة؛ حيث خطفت العصابات الدموية العاصمة، وأحالت حياة الليبيين إلى سجن كبير في طرابلس الغرب ومصراتة.

منذ الإطاحة بنظام القذافي، أصبحت ليبيا ساحة قتال للمصالح المتعارضة، دولة مزقتها وتسيطر عليها ميليشيات متنافسة، وتديرها حكومتان، ومجلسان منتخبان في البرلمان، ومصرفان مركزيان، وعشرات الميليشيات.

موقعها الاستراتيجي أغرى كثيراً من اللاعبين الدوليين للاستفادة من مواردها. تنقسم ولاءات هؤلاء اللاعبين:

في الأشهر الأخيرة، زادت المساعدات الروسية لقوات حفتر، على الرغم من استمرار موسكو في الادعاء بأنها على اتصال بكلا طرفي النزاع.

من ناحية أخرى، دعمت تركيا وقطر حكومة السراج، التي تتمتع بدعم الأمم المتحدة وتتخذ من طرابلس الغرب مقراً لها.

لكل دولة أوروبية مصلحة راسخة في استقرار ليبيا، التي تعد ثالث أكبر دولة مصدرة للنفط في أفريقيا. على سبيل المثال، وقَّعت إيطاليا اتفاقية تمنع اللاجئين من جميع أنحاء أفريقيا من الإبحار إلى الاتحاد الأوروبي من ساحل ليبيا. ووقَّعت تركيا اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع حكومة السراج، واتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين. وهذا يمكِّن تركيا من زيادة تنقيبها عن النفط في البحر المتوسط بشكل كبير، والاستيلاء على المناطق المخصصة للتنقيب عن النفط والغاز من اليونان وقبرص.

مصر، من جانبها، تعارض بشدة تدخل تركيا في الفناء الخلفي لها، مما قد يعزز جماعة «الإخوان المسلمين» التي يدعمها إردوغان علناً، وتقوض مصالح مصر في البحر الأبيض المتوسط.

في السنوات الأخيرة، حددت روسيا فرصاً لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وبعد تعزيز سيطرتها على الحافة السورية للبحر الأبيض المتوسط، ترى ليبيا كقاعدة استراتيجية يمكن أن توفر الوصول إلى حافة أخرى من البحر الأبيض المتوسط، واحتياطيه من الطاقة.

من هنا بدأت المشاركة المتزايدة للاعبين الخارجيين في النزاع الليبي، منذ بدء حملة حفتر العسكرية لاستعادة طرابلس الغرب في أبريل (نيسان) 2019. ومؤخراً ذكرت تقارير متتالية أنه تم إرسال 2000 من المتمردين السوريين السابقين بتمويل من تركيا (يقبض كل منهم 2000 دولار شهرياً) إلى ليبيا لمدة ستة أشهر.

من الواضح للجميع أنه مع زيادة مشاركة اللاعبين الخارجيين في الصراع، فإن الحل يبتعد أكثر. وعندما يصبح الوضع أكثر تعقيداً، فقد يزداد العنف وينتشر إلى الدول المجاورة، مما يشكل تهديداً لأوروبا، من حيث اللاجئين والإرهاب وإمدادات الطاقة.

رغم كل هذا، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً مماثلاً لموقفها في سوريا، ولم تمارس كل ثقلها، مما أجبر أوروبا على مواجهة التحدي، بعد سنوات عديدة من النظر من الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط.

كان الهدف من مؤتمر برلين إيقاف العملية الخطيرة التي تقوم فيها تركيا بتأسيس حقائق على الأرض، وزيادة نفوذها في ليبيا، وتحقيق موقع مناسب للضغط على منافستيها، مصر وأوروبا، من حيث ما تراه مناسباً.

إلى جانب المؤتمر الذي عقد في برلين، يدرس الاتحاد الأوروبي طرقاً لدعم وقف إطلاق النار وإنفاذ العقوبات، بما في ذلك إمكانية تجديد دورياته البحرية على طول الساحل الليبي، أو إرسال قوات حفظ سلام دولية إلى المنطقة.

النزاع في ليبيا على مفترق طرق. أحد الاحتمالات هو أن تنجح أوروبا في تنفيذ وقف دائم لإطلاق النار، وإبعاد القوات الأجنبية عن ليبيا، وفرض الحصار بدقة، ووقف تدفق الأسلحة إلى البلاد، وإجبار الخصوم على التخلي عن تطلعاتهم العسكرية، والتحول إلى تقارب بدلاً من ذلك.

الاحتمال الثاني هو استمرار القتال، وستواصل تركيا دعم معسكر السراج، وتوفير الأسلحة والتدريب والمشورة العسكرية والمقاتلين من مختلف الجنسيات، الذين اكتسبوا خبرة كبيرة خلال سنوات القتال الطويلة في سوريا.

في المعسكر المنافس، سيتم دعم حفتر من الموالين له. وفي مثل هذه الحالة، قد يتصاعد القتال الداخلي في ليبيا إلى مواجهة أوسع نطاقاً. وعلى هذا النحو، تتحمل أوروبا والغرب مسؤولية كبيرة.

لقد أثبت مؤتمر برلين أن أوروبا تدرك بالفعل التهديد المتزايد. والسؤال هو: هل ستنجح في تجنيد القوات اللازمة لوقف العدوان التركي، ومنع الوضع في ليبيا من التدهور إلى صراع مماثل للحرب الأهلية في سوريا؟

سؤال آخر وأكثر أهمية، هو: في نهاية المطاف، ما الذي سيؤدي إلى تحرك الدول العربية - بشكل منفصل أو معاً عبر الجامعة العربية - لإنهاء الفوضى في ليبيا؟

الجواب واضح، وإلقاء نظرة خاطفة على عناوين الصحف اليومية يثبت أن الوطن العربي قد تحول إلى حي؛ حيث يفعل كل طرف ما يناسبه، أي بالعامية «حارة كل مين إيدو إلو».