راجح الخوري

قبل أسابيع قال وزير الخارجية الفرنسي ما يمكن أن يمثل نعياً للبنان في ظل تخبطه المستمر في أزماته السياسية والاقتصادية، والأسوأ في ظل تعامل المسؤولين فيه مع اندلاع الثورة التي شملت كل مدينة من البلاد، وصلت إلى 26 بلداً في المغتربات، وكأنه مجرد عاصفة في فنجان أو أزمة عابرة!

فعندما يقول جان إيف لودريان، مباشرة بعد تشكيل حكومة اللون الواحد، التي يرأسها الدكتور حسان دياب، مفتقراً للحد الأدنى من دعم الطائفة السنّية، بدليل أنه لم يقم بعد بزيارة المفتي عبد اللطيف دريان: «على الحكومة الجديدة وضع كل الإمكانات للقيام بالإجراءات الإصلاحية التي لا بد منها لبقاء لبنان؛ لأن الوضع صعب إلى هذه الدرجة»، فإن ذلك يعني في بساطة أن بقاء لبنان بات على المحك، وأنه لا بد من إصلاحات حقيقية وجذرية ومسؤولة، لكي يتمكن من أن يتجاوز خطر الانهيار النهائي!
لكن السؤال البائس دائماً الذي يطرحه اللبنانيون هو: ومن ذا الذي سيقوم بهذه الإصلاحات، إذا كانت القرارات ستؤخذ على يد الوسط السياسي إياه، الذي تعاقب منذ أعوام على صنع الأزمة المصيرية التي باتت تهدد بقاء لبنان فعلاً، بمعنى كيف يمكن الداء أن يصير الدواء، وخصوصاً مع حكومة من صنع اتجاه سياسي واضح تماماً، بمعنى أنها خرجت من رحم «حزب الله» الذي يقول إنها «حكومة إنقاذ»، لكن من الواضح حتى الآن بعد أسبوعين على تشكيلها، أنها لن تكون قادرة على إنقاذ شيء.
قبل يومين قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شنكر، الذي يملك دراية أميركية دقيقة بحقيقة الأوضاع في لبنان: «إن الاقتصاد اللبناني في وضع أسوأ مما يظن البعض، ونحن نعتقد أن ما يملكه من الاحتياطات الأجنبية أقل بكثير مما يتم الإبلاغ عنه»، ويأتي هذا الكلام وسط أزمتين؛ أزمة المصارف التي تفرض على المودعين رقابة صارمة تحدد قيمة السحوبات، ويقال إنها تتجه إلى ما هو أقسى، وأزمة استحقاق تسديد مبلغ مليارين و200 مليون دولار في نهاية الشهر المقبل في إطار استحقاقات اليوروبوند، خصوصاً أن هذا المبلغ المتوجب على الدولة اللبنانية الغارقة في الفساد والنهب، سيتم تسديده في النهاية عبر المصرف المركزي، بما يعني عملياً من أموال المودعين اللبنانيين لا من أموال الدولة، التي سبق لوزير المالية في الحكومة المستقيلة علي حسن الخليل أن أعلن من شاشة التلفزيون أن الخزينة العامة فارغة تماماً «ولا ليرة»!

ولأن تصريح شنكر جاء من تل أبيب، سارع الكثيرون إلى ربط كلامه بموضوع توطين الفلسطينيين ربطاً بما ورد في «صفقة القرن»، لكن بغض النظر عن تلك الصفقة، فالوضع المالي في لبنان يعاني من أزمة قاتلة تماماً، وقد سبق لوزير الخارجية مايك بومبيو أن صرح قبل أسبوعين بـ«أن لبنان سيكون أمام أزمة مالية رهيبة في الأسابيع المقبلة»!
كل هذا لا يشكّل اكتشافاً ولا يضيف شيئاً إلى وقائع الوضع المنهار، الذي يهدد بوضع لبنان في قائمة الدول الفاشلة، وهو ما يعترف به صراحة المسؤولون في بيروت؛ فقد خرجت الحكومة المستقيلة على الثورة المتأججة ضد الفساد والنهب، ومع اعتراف صريح بأن الوضع يتجه إلى كارثة، وخصوصاً أن واردات الدولة تراجعت بنسبة 40 في المائة في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وأن أرقاماً كارثية طفت على سطح الواقع؛ إذ بلغت قيمة مخصصات المسؤولين والرواتب، التي تدفعها دولة المزرعة والتنفيعات إلى أكثر من 300 ألف موظف ومتعاقد وأجير ومنتفع، إضافة إلى قيمة خدمة الدين العام ما نسبته 106 في المائة من الإيرادات، بما يعني أن كل قطاعات الكهرباء والمستشفيات والصناعة والاستيراد والأغذية لن تجد دولاراً واحداً من المبالغ الهائلة، التي تطلب الدولة من البنك المركزي تأمينها، أي من مال الناس!

خرجت حكومة تقرع طبول الإفلاس ودخلت حكومة تعزف مقدمات الكارثة، لم يتردد حسان دياب من القول: «إننا نواجه كارثة اقتصادية»، ولم يتأخر وزير المال غازي وزني في القول: «إذا استمر الوضع على ما هو عليه فنحن نسير إلى الانهيار»!
لكن ليس المطلوب أن يسمع اللبنانيون هذا الكلام الجنائزي.. المطلوب أن يقول دياب في البيان الوزاري لحكومته ماذا سيفعل لمواجهة الكارثة وأن يعلن وزني وغيره من الوزراء كيف عليهم أن يتصرفوا لوقف الانزلاق إلى الكارثة.
ما تسرّب عن البيان الوزاري يدعو إلى البكاء عندما يقول مثلاً «إن لبنان مرّ في السنوات الأخيرة في أزمات وتحديات كبيرة تراكمت حتى أوصلتنا إلى أزمة مصيرية»، فيا لهذا من اكتشاف فذ، ليس أقل منه الحديث عن «تفعيل دور القضاء في الحرب على الفساد» الذي صادف إعلان الرئيس ميشال عون «أننا نواصل الحرب ومكافحة الفساد»، لكن ليس في لبنان حتى الآن حرب من هذا النوع، ولا حتى فاسد من الرؤوس الكبيرة التي تناوبت على نهب المال العام!
الواقع لم يعد خافياً على أحد، لبنان بلد مغلق على أزمة اقتصادية كارثية، والأنكى أنه مغلق على أي مساعدات خارجية ممكنة، فهو يواجه دول الخليج بحكومة اللون الوحد، ولم يكن غريباً مثلاً أن تتوالى المؤشرات والرسائل التي تقول إن من غير الممكن المراهنة على أي مساعدة من الدول الخليجية الشقيقية، التي تتعرض للاتهامات والتجنيات من بلد يتحدث عن النأي بالنفس وينخرط في المعسكر المعادي للخليج.
وما ليس خافياً، لا بل إنه واضح تماماً، هو التصريحات الغربية سواء في الأمم المتحدة، الذي كرر ممثلها في بيروت يان كوبيتش يوم الأربعاء الماضي، ليُسمع المسؤولين ما طالبهم به مراراً أي «الإصلاح الإصلاح الإصلاح»، وكذلك تصريحات المسؤولين في الولايات المتحدة، وفي الدول المانحة في «مؤتمر سيدر»، عن أن لبنان لا يمكنه أن يحصل على قرش واحد من المساعدات دون الانخراط في عملية إصلاح حقيقي وجاد يوقف الفساد والنهب المتوحش على المال العام، وهو أمر من الواضح تماماً لا يمكن أن يتم دون إلقاء الحمولة السياسية الفاسدة والمفسدة في المحاسبة وحتى في السجون.

لكن هذا الأمر يبدو مستحيلاً لسببين؛ أولاً لأن القرار كان في يد مجموعات من المنتفعين، الذين ترعرع الفساد في أيامهم، أما السبب الآخر فلأن الطائفية والمذهبية سرعان ما تطفو على السطح وتكشر عن أنيابها لتمنع أي عملية إصلاحية حقيقية، وهو ما واجهه الرئيس شارل حلو عام 1964، ثم عاد واصطدم به الرئيس رفيق الحريري عام 1994 تحديداً، وأذكر أنه قال لي شخصياً يومها كيف لنا أن نصنع الإصلاح عندما تعتبر أي طائفة أن تطهير أحد الفاسدين من أبنائها يشكّل انتقاصاً منها وإهانة لها؟
بالعودة إلى الوضع الراهن، من الواضح أن لبنان يواجه نوعين من الوباء القاتل، الـ«كورونا» الاقتصادية والـ«كورونا» السياسية؛ الأولى ستدفع البلد إلى الإفلاس والأخرى ستمنعه من الانخراط في عملية إصلاح حقيقية، وكل ما نسمعه عن محاربة الفساد من المستحيلات تماماً، مثل الحديث الواهم عن استعادة الأموال المنهوبة، على الأقل لأن من نهب لن يعيد المنهوب.