عبد الأمير المجر

أحيت روسيا، قبل أيام، ذكرى واحد من أشهر وأخطر مؤتمرات القرن العشرين؛ مؤتمر يالطا، الذي عقد في جزيرة القرم السوفيتية، يوم 4 شباط 1945، وجمع الثلاثة الكبار: روزفلت، ستالين، وتشرشل

كان الهدف المعلن للمؤتمر، القضاء على النازية، ومحاكمة رموزها. لكن الحقائق المخفية التي انتهت إليها مخرجات المؤتمر، ظلت تتكلم عن مساحة واسعة من الأرض، وما زالت آثارها وتداعياتها ماثلة حتى اليوم

استمرت الجلسات من 4 إلى 11 شباط، تفاهم خلالها الزعماء الكبار على تقاسم النفوذ في العالم، بعد أن رسموا لجيوشهم خرائطها العسكرية لحسم المعركة، ورسموا، كذلك، الخرائط السياسية المستقبلية. لقد وضعوا خطا فاصلا تقف عنده جيوش المعسكرين، التي ستلتقي في برلين، وكان لا بد من أن يأخذ كل طرف حصته منها، وليفرض عقيدته عليها، كذلك، ففي الأحوال كلها، سيجد من يتعاون معه، إيمانا بها، أو خوفا وطمعا بمنصب!

لم يكن الأمر بأفضل منه في كوريا، المستعمرة اليابانية، التي فقدت سيادتها منذ العام 1910، وتم خلع امبراطورها (غو جونغ)، فعادت محررة في العام 1945 ببركة اتفاق القرم، الذي سيتحول إلى لعنة دفع ثمنها غاليا الشعب الكوري وما زال؛ إذ تقاسمها الجباران؛ الجنوب للأميركان والشمال للسوفييت، وحين حاول الشماليون توحيد البلاد تحت العلم الشيوعي، بدفع من الصينيين وليس السوفييت، صار الحد الفاصل بين الشطرين، نهرا من دم، بعد قتل أكثر من ثلاثة ملايين كوري، من دون أن يتزحزح أي من الجبارين عن استحقاقاته لصالح الآخر، ليبقى الواقع على ما هو عليه إلى اليوم، حتى بعد أن تغيرت الدنيا وتبدلت العقائد، كونها، بالأساس، أقنعة للمصالح، التي هي الأبقى والأكثر ثباتا على الأرض.

المأزق الأكبر الذي تركه هذا المؤتمر، كان في الشرق الأوسط، مخزن الطاقة الذي ورثته أميركا من سابقتها بريطانيا، وتحالفتا على ألّا ينافس نفوذهما فيه السوفييت أو غيرهم، لأنه يمثل عصب الاقتصاد العالمي، ليس بالضرورة لحاجة أميركا وبريطانيا للطاقة، بل، وهذا هو الأهم، للتحكم بأسعار هذه السلعة الحيوية، التي يتحرك اقتصاد الدول على إيقاعها، وتهبط وترتفع قيم عملاتها بسببها.

السوفييت، وهذه حقيقة تأكدت للجميع، تنازلوا للأميركان عن الشرق الأوسط، لا سيّما دول منطقة الخليج، فجعلوا قوى اليسار الشيوعي أشبه بعروس الوعد الذي لن يجيء، وإن أيّة محاولة، من أي حزب شيوعي أو ماركسي، لاستلام السلطة، في أي بلد من بلدان هذه المنطقة، تصطدم، أولا، بالحاجز السوفيتي، وكإن لسان حالهم يقول: لا تجعلونا في مواجهة مباشرة مع الأميركان، لقد تقاسمنا الحصص، وانتهى

كل شيء!

نعم، هذه هي الحقية المرة التي لم يدركها أكثر اليساريين العرب والعراقيين، من الذين دفعوا أثمانا باهظة في ما بعد، لأن أحلامهم تجاهلت هذه العقبة الواقعية، فسال الكثير من الدم وضاعت الكثير من السنين وتعطلت الكثير من الكفاءات، لأنها وجدت نفسها إمّا محيّدة في بلدانها لأسباب سياسية، أو هجرتها للمنافي.

لا شك في أن أسرار مؤتمر يالطا كثيرة، وبعضها بات معروفا وبعضها الآخر ما زال طيّ الكتمان. لكن السؤال الذي يطرح نفسه أمام أنظمة منطقتنا اليوم، وبعد التجربة المريرة الطويلة: هل بإمكاننا أن نسلك طريق الاستقلال الفعلي، مع وضع مصالح الأميركان والروس في

الحسبان؟

الجواب الذي يعرفه كل عاقل، هو: نعم، لكن حين تتوحد رؤية دول المنطقة لمستقبل شعوبها، بعيدا عن أيّة تهويمات عقائدية، تعمل على استعداء الشعوب لبعضها، وتستنزف ثروات وامكانيات الدول، كنتيجة لهذا العداء غير المنتج، وأن نتعامل بواقعية مع مشاكل منطقتنا، بموازاة إدراكنا حساسيتَها العالمية، فعندها نكون قد وضعنا الجميع، كبارا وصغارا، أمام واقع جديد، يفرض عليهم احترامنا، مثلما يقطع عليهم وسائل التدخل في شؤوننا.

الأميركان والروس موجودون الآن في المنطقة، وإن تنسيقا عالي المستوى بينهما، لأن لكل منهما مصالحه التي يعرف كيف يحافظ عليها بالتفاهم. لكننا للأسف لم نعرف تماما أين تكمن مصالحنا، وكيف نسلك الطرق الصحيحة إليها، فأصبحنا من حيث ندري أو لا ندري، أدوات لتنفيذ مصالح الآخرين، بل ومطالحهم، كذلك، إرضاء لشهوة العداء المستحكمة بين الأنظمة، الأنظمة وحدها!