عبدالحق عزوزي

سعدت بالمشاركة في العاصمة الكرواتية زغرب في أشغال أعمال مؤتمر «الأخوة الإنسانية لتعزيز الأمن والسلام» الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع المشيخة الإسلامية في كرواتيا والأبرشية الكرواتية، برعاية الرئيسة الكرواتية، وحضور رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وعمدة زغرب، وحضور مفتيي دول البلقان ورؤساء المشيخات والمجالس الإسلامية في أوروبا الشرقية والفاتيكان ومشاركين من العالم بأسره تحدثوا حول مسألة العيش المشترك في النظام العالمي الحالي.
ومما أثار انتباهي في هذا المؤتمر هو الحضور الوازن لمسؤولي دولة كرواتيا وفي مقدمتهم رئيسة البلاد التي أشارت في تدخلها إلى أن الكرواتيين لا يمكنهم أن ينسوا أرواح الجنود المسلمين الذين دافعوا عن كرواتيا في حروبها السابقة، داعيةً إلى حوار الثقافات والأديان، حيث إن الإسلام له مكانته الطبيعية اليوم في حركة كرواتيا من أجل إحلال السلم الاجتماعي والأمن المجتمعي. والمسلمون، وإن كانوا أقلية، فهم يعيشون باندماج وتناغم ووطنية عالية، فعددهم في كرواتيا 63 ألفاً، أي 1,5% من مجموع السكان، وقد قُتل في الحرب الوطنية 1686 مسلماً يمثلون 12% من مجموع القتلى، وقتل في الحرب 15 ألف قتيل منهم 10 آلاف جندي و5 آلاف مدني، ما يعطي انطباعاً عن حالة التعايش القوي بين المسلمين وغيرهم في كرواتيا، كما أن الحروب العنصرية كانت حالة طارئة غير قابلة للتكرر.
الذي وقع في كرواتيا، وينبغي أن يقع في كثير من الدول الأخرى، هو نجاح الحوار بين مختلف مكونات الشعب في ظل الدولة الوطنية الجامعة، والحوار المطلوب هو الحوار المحايد دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعرقياً وجنسياً.. حوار الإنسان للإنسان وفق قيم محايدة وانطلاقاً من القواسم المشتركة وقواعد الفهم والاجتهاد والتأويل للمنطلقات الربانية الإنسانية الجامعة.

لا نريد حواراً لتنتصر ثقافة بعينها على ثقافة أخرى، أو لتبسط دولة ما هيمنتها على دول أخرى، ولا لتحقيق طموحات سياسية لطرف على حساب طموحات سياسية لطرف آخر.. نريد حواراً ينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه. ليس الدين هو ما يجمع بين الإرهابيين، بل يجمعهم الجهل بالدين، كما لا يخفى على أحد أن العالم يعرف تحديات كثيرة ومتنوعة، تستمد خطورتها من تحريف الرسالة الإلهية واستغلالها، وهناك قناعة مشتركة حول ضرورة بناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، لأن القيم التي ترتكز عليها الديانات التوحيدية تساهم في ترشيد النظام العالمي، وفي تحقيق المصالحة والتقارب بين مكوناته.

نريد إذن حواراً تنتظم به المفاهيم المشتركة، وتتوحد معه الغايات المشتركة، ويصان به المصير الإنساني المشترك.. حواراً مؤسساً على ثوابت الاحترام المتبادل.. حواراً ترتكز منهجيته على عدم التعرض للخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية، وعدم انتهاك رموزها ومقدساتها. نريد حواراً تحشد به طاقات وإمكانات التنوع البشري بكل انتماءاته ومضامينه ومسمياته وطموحاته.. من أجل التعاون والعمل الصادق.

وكما أبرزت خلال تدخلي في المؤتمر، فإن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات البشرية يستدعي إقامة شراكة عادلة وتواصل إيجابي ضمن عقد اجتماعي يتوافق عليه الجميع، يستثمر تعدد الرؤى في إثراء الحياة المدنية والحضارية، وفي تحقيق تنمية شاملة. والحوار الهادف بين الجميع ضروري، فلا يتصور انطلاقاً من الرؤى المرجعية والقواسم المشتركة أن تتصارع الثقافات فيما بينها، بل يمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي. على كل الدول والأفراد والشعوب والجماعات التأصيل لهذه القناعة لاجتثاث الجهل من جذوره وأصوله، ولتتكون من خلال كل النوايا الحسنة والمبادرات الدولية شجرة العدل والتسامح، شجرةٌ أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظل العقلاء بأوراقها، وينهلون من ثمارها الشافية، للقضاء على وباء الإرهاب والغطرسة والأهواء الطائشة والانطباعات الذاتية والمعلومات الشائعة التي تهدم ولا تبني. ثم إن التعايش الحضاري الذي ننشده جميعاً هو تفهمنا لسنة الخالق في الاختلاف والتعدد والتنوع، ووجوب التعايش والتعاون على ضوء هذا التفهم.