محمد المعزوز

لمّا كان مآل الحرب الباردة التي شهدها القرن الماضي طغيان المركزية الأمريكية، وجعل العالم لواحق سياسية تابعة لها، أو بتعبير نعوم تشومسكي مقاطعات مغلوبة على أمرها لنموذج دولة كبرى متعالية، فإن معنى السيادة السياسية لم يصبح هامشاً فقط، بل تحوّل في منظورها إلى عائق للديمقراطية، لأن الاحتماء بالسيادة يشكل مجالاً مغلقاً تنتعش فيه الأصوليات والتطرف حسب زعمها.

بتقديمها لهذا المبرّر، تحاول أمريكا أن تؤسس لمرحلة تاريخية جديدة في الهيمنة السياسية تحت ما أسمته بالعولمة لشرعنة تدخلها وإجهازها على كل ما يشكل خصوصية الدول، لأن المنظومة المركزية التي بنتها لا تستقيم مع طبيعة الخصوصية المميزة للمحلية، وللتعدد الثقافي وتنوعه.

وعلى هذا الأساس، تحاول أمريكا أن تنتقل إلى بردايم جديد يضمن لها استمرار سيطرتها على العالم، عبر الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والثقافة، وتعتبر هذه الرباعية هي المجال الواسع الذي يستقطب اليوم كل الصراعات التي يشهدها العالم، ولذلك فهي تحاول السيطرة عليها وتوجيه نتائجها بالطريقة التي تخدم مصالحها، وكلما حدثت أية مغايرة لهذه الإرادة لجأت إلى القوة كما حدث معها في كثير من دول العالم، وبخاصة في الدول العربية.

لعبة المغايرة التي أصبح الشارع العربي يتقنها، أربكت تقديراتها السياسية من خلال صناعتها لما يسمى بالربيع العربي ولداعش، وغيرهما من الآفات التي جلبت الويلات للبلاد العربية وأسقطتها هي نفسها في فخاخ كلّفتها فاتورة غالية جداً.

تحدّث تشومسكي عن أخطاء التقديرات السياسية لأمريكا ليؤكد أخيراً أن لعبة التمركز التي أعمتها جعلتها تعتبر الاستقلال بسيادات الدول والتمسك بهوياتها المتعدّدة مغايرة غير مقبولة لديها، لأنها ناسفة لمشروعها الاستراتيجي ولتجدّد قوّتها التي يفرضها عليها التطور وتغيرات العالم.

إن حسابات أمريكا في المنطقة العربية أوقعتها في خطئين جسيمين، الأول: انهماكها في تقويض الدولة العربية لحسابات جيو- ستراتيجية واقتصادية أخذت منها وقتاً طويلاً ومستنزفاً على حساب تطوير آليات منافستها لدول آسيا التي لم تسلك مسلكها الخاطئ، ما جعل الصين تبرز كقوة كبرى تفوقت عليها تجارياً. والثاني: شعبوية ترامب المتحيّزة لإسرائيل وتهوّره في بلورة ما يطلق عليه صفقة القرن، التي أجّجت جيلاً جديداً من المدافعين عن فلسطين، جيل مهيّأ لركوب مغامرة العنف والتطرف، تشبه مغامرة داعش.

وهذا ما ألمحت إليه المخابرات الروسية وهي ترصد خطوات أمريكا في المنطقة، وما أشار إليه بالتقريب مركز البحوث الاستراتيجية التابع للبنتاغون الأمريكي نفسه.

في مجمل القول، إن إرادة أمريكا في تجديد قوّتها باعتماد أسلوب محو سيادة الدول وفرض نظام دولي جديد، لن يمكّنها أبداً من التحكم في العالم كما تشاء، لأن إرادة الشعوب في زمن شبكات التوصل الاجتماعي والتكنولوجي لها منطق مختلف، كما هو واضح في الشارع العربي اليوم.